المخرج بين لعبة الجسد النصي وجسد الركحي
جورنال أنفو
المخرج بين لعبة الجسد النصي وجسد الركحي
تتنوع القراءات حول الجسد ودلالته، من منهج إلى منهج ومن ثقافة إلى ثقافة، وتعدو كيانا رمزيا وطقسيا يصعب تحديد ولادته في الموسوعات التاريخية والنفسية والأنتروبولوجية فهذا التنوع الجواني، جعل المخرج يتفنن في هذا التوظيف وفي هذه الممارسة الركحية، عارضا براعته الفنية التي تتم وتتأسس على قوة إبداعية غير مألوفة منذ بدايته المسرحية، ولكن كيف وظف حسن العلوي هذا الجسد الركحي، بجانب الأجساد المؤقتة؟ وما هي هذه العتبات والامتدادات الفنية والجمالية والإخراجية لهذا الجسد الركحي؟ تبعا لسنة التطور وقانون الممارسة الإبداعية، فإن المخرج لم يقف عند عتبة جسد النص، ولا جسد الممثل، بل عمل على الانفصال الظاهري بغية الولوج بالأصل/الغائب أي (الفني والتطبيقي) إلى الكل بوصفه الجوهر الذي يحتوي على شيء، إنه الغياب والحضور الذي يظهر كل شيء عن ماهيته وحضوره حسب تعبير جاك ديريدا[1] وهذا التفكير الإجرائي هو إعلان عن اللامفكر فيه الذي يظهر كوسيط بين النص والجسد، وبين الفهم والإيقاع مما يجعل الأنا / المبدعة تنكب على تأسيس المعنى، ليجعلها تعرف ماهيتها بصياغة جديدة، لأن جسد الممثل يبقى كمعطى يرتبط بين الصوت والمعنى والإدراك والمعرفة، كون هذا التمسرح الجسدي يبعثر هذه الثنائية ليخلق داخل الجسد الممثل أنوية تمثيلية لا تنتهي للمعنى الواقع، بل تضع اللغة غير بعيدة عن المعرفة الجسدية، لأن توجه الكتابة الجسدية عند حسن العلوي نحو انزياحات واستعارات رمزية يؤدي به إلى تفكيك الحقيقة الجسدية الثابتة، وبالتالي التفكير في الجسد خارج الاستعارة الموظفة التي لا تسمح لنفسها أن تتحكم بها وفيها بواسطة اللغة الدرامية. فالتحويل المضاعف لهذا الجسد هو قلب التراتب المعجمي لكونه يقع وراء التميزات التي تجعل الآتي يحل محل الجسد وهذا ما عنده في مسرحية (خطانو وأساطير معاصرة)، وهذا ما نلاحظه أيضا من خلال اختياره لعناوين المسرحية، فتأسيس البعد الكوليكرافي لهذا الجسد هو تواصل لإزاحة قوة المركز مع رصد خلل الجسد وهو ينفذ من ستار اللغة والإيماءة.
[1]– جاك ديريدا، “التفكيكية النظرية والتطبيق، ص 35 – 36، والكتابة والاختلاف، ص 138 – 139.
المسرحي، فالجسد يمتلك وحدة مع النصوص الأخرى دون أن تكون جزءا منه ومع النص المسرحي من جهة أخرى، ودون أن يكون جزءا منها، لأن الجسد حسب المخرج يحاول إعادة قراءة الجسد السائد في النص الدرامي وخاصة الأخلاق والتربية، كما أنه يسعى لتأسيس ذاكرة في المشهد الركحي الذي يعتمد الإيحالات الرمزية على شكل أقنعة لتأثيث دلالة معجمية جسدية، فيما تعتمد نصوص المخرج على ذاكرة الجسد المضاعف الذي يساير أصوله حسب أصول ذوقه ما يجعله نصا مضاعفا، ومفارقا لانتهائه الرمزي والعلاماتي، باستمرار غير منتسب لنفسه، وبالرغم من أنه ينكر الأصل كونه يمتلك وجودا باطنيا، فوجود الكتابة الجسدية في المسرحيات الممسرحة تعطي أصالتها الطبيعية ووجودها الأنترولوجي الخارجي، لتظهر في شكل أخيلة ورمزية تسعى إلى وضع طروحات ومفاهيم غير خاضعة للتحديد ولا التعيين، معتمدة على الخيل كطقس كوليكرافي يؤثث المشهد الجمالي والانفعالي الباطني، إن تراسل الحواس هي ترتيبات لفظية، وعناية دلالية يكون فيها الجسد المضاعف (الجسد داخل الجسد) علة وجودية وغائية تثري الفعل المقصدي على المستوى الإمتاع واللذة. فلا نجد حضوره قارا وتمثلا مركزيا كما في مسرحيات “رحلة الخلاص”، و”لعبة الحرية”، و”ليام آليام” و”الكود”، فهذه المسرحيات رغم تنوعها في الصيغة وفي المنهج، فإن الوجود الجسدي يبقى في انفتاح تام على الرؤيا وخرقا للمشروع الكلاسيكي الأرسطي، ومتجاوزا الوضعية الاندماجية للخروج من وضعية الجسد المقيد ليؤسس جسدا متحررا من حدوده، ويقظة ايروتيكية يتشكل فيها النص، كإحالة نصية وتركيبية حوارية، وانعكاس غير مرتبط، ولغة تنشد الكمال والتوحد بالأصل، والغوص في خلق مسافة ابتغاء لهدم الذوق والأحكام القيمية، لتنشدانا لشيزوفيرنية ولتكون كائن في لا زمني ولا شخصي في الزمكان، ولتكون أيضا لغة لدينامية زمنية ترفض أي تمركز حول الجسد المتعالي، فهذا التصور الجسدي حسب جاك لاكان هو منطق ما بعد الجسد الحداثي، لأنه بنية لغوية مؤلفة من حركة وفعل وممارسة وتواصل، ليغدو معها الجسد كائنا لا زمنيا كما في مسرحية “الساروت”.
إن الجسد في هذه المسرحية لا يقر بالنهاية ولا بالغاية، بل يمدنا بقراءة مفتوحة ابتغاء هدم رسائل مرتبطة بالذاكرة وبالمعنى، لأن للجسد المضاعف إقامته الطقسية لمواجهة الطرائق البلاغية والنحو المتوهم. جسد يصنع المعاني اللامتناهية في شكل تمفصلات بين الكتابة والأنا، لتكون مفهوما غير عيادي حسب مفهوم ميشل فوكو للعيادة، فالمخرج حسن العلوي يرى أن جسد الممثل رقم 1 ورقم 2 ورقم 3 لا زمني يفتقد الهوية الطبيعية ليرسم للزمن الإبداعي رؤيته للزمن بلغة درامية تفوض هذا المركز وهذه المعطى، ولتغدو كتابة ركحية في كينونتها، وتعاليا في سكونا وكمالها، لأن العلاقة بين الكتابة والجسدية والرؤية الفرجوية هي علاقة انتروبولوجية لا منطقية للكتابة الإبداعية[1].
فالفصل والوصل تجاوز يقع ضمن الماقبل والمابعد يكسب لهذا الجسد اتصاله الكينوني وكليته الاجتماعية والنفسية والفرجوية، وهذا نوع من المغايرة القائم والمبني على الاختلاف والتنوع من كونه فعل المسرح المضاعف، فالكتابة الجسدية كائن جماعي لا تتأسس إلا بالممارسة البصرية وبالاحتمال والممكن والتنوع القرائي البصري يسكن أجساد المسرحيات المذكورة، ويعطي لرؤية المخرج تحول فوق السائد والجمود والانقطاع والتشابه، لأن الاختلاف يلغي المطابقة والمحاكاة والمصالحة والتوافق الطبيعي، فبدون المغايرة المضاعفة لا يوجد جسد مؤدلج ومقنع ومتمرد، يكون هو الأشمل والأمثل في كل تخريجات المخرج حسن العلوي. ففهم هذا التحول يكمن في الاستعداد القبلي، وفي التوجيه القرائي كعتبات خارجية (النص – العنوان – صاحب النص – الصور – الجسد – الألوان – اللغة …) التي تتغير في المتغير نفسه لتكون كوليكرافية جديدة حاوية لهذه العملية التأويلية، وقد عملت الكتابة الجسدية من أن تكون عنوانا خصبا قابلا أن يستوعب كل الشرائط الخارجية والداخلية للجسد، لطرح السؤال التالي: كيف تعامل المخرج مع هذا الجسد؟ سؤال يفلت من كل تعريف براني (سطحي) ليكون علامة غريبة عن النهائي والثابت، حاملا قراءة مفاهيمية تضع لهذا الجسد منطقا كونيا، لذلك فتوليدات المخرج للجسد تتسم بالتخطي الخطي (بداية – وسط – نهاية) لتضعنا أمام فعل الأثر الجسد الطبيعي الذي لا يؤسس الاختزال والاقتصاد اللغوي غير الزائد على الدلالة الفنية، وكلما اقتربنا من تشكيلته الفنية والإخراجية إلا وأدركنا أن الخصائص الجمالية والإبداعية الركحية تكون هي المعادل الموضوعي للأثر الجسدي، وهذا ما دفع حسن العلوي إلى إيجاد طريقة لا يساوي فيه الجسد، بل يكون توليدا لإفرازات كوانتية لا تدعي الحكم للتعالي بل تتحول إلى وظائف سردية وكتابة شعرية وخضور موجه إلى شعور الممثل الداخلي. إن الكتابة الجسدية هو قانون جديد وصوت آت من التوليد والتجربة وروح موصولة باللغة والملابس والإثارة والموسيقى، والتمركز حول التعدد والإشارات العرفية وإيمائية التي صارت تدعي لنفسها حق الشرعية في الاختلاف، والمقصدية (الإبداعية) الفرجوية.
إنها إشارات لا تدعي لنفسها حق التملك الباطني ولا تمارس دور السيادة على جسد الممثل بل تتحول إلى لعبة غير إلزامية، وإلى قوة غير متعالية، وكتابة مسكونة بالإقرار لينعدم وجود الجسد الطبيعي كما ذكرت وليسود الانفصام ليس (النفسي الإكلينيكي) ككيان مقسم إلى أنوية بكل جهازها المفاهيمي من خلال التماسك والبناء والميتافيزيقي.
فبهذه المسرحية هي لعبة يتحول فيها الواقع إلى أقنعة بلاغية تؤسسها اللغة الإيروسية كتجربة فكرية حقيقية يقرأ فيها الجسد كقناع يعرض تلاحق اللوحات التي لا تشرع ولا تفسر المضمون، بل يخترقها الحكم والفكر انطلاقا من جدار الواقع الصامت، وهذا الطابع الإيحائي يتشكل في صور متلاحقة، يجيب على الأساسي وعن المناطق العذراء في تفاصيل الجسد، مما جعل جسد الشخصية تنتقل من القلق إلى النشوة De l’angoiss à lextase ليضع التسامي دون العودة إلى اللاواعي الفرويدي، لأن جانبه الفعلي (الرجل) يغوص مكان مقولة الشعور الباطن[2]، فرفع القناع حول الإنسان هو إلغاء حيز الانبثاق العقلاني، وبروز الشهوة والإشباع التي تترجم الحرمان والقلق فيغدو الجسد الأنثوي يفكر ضد ذاته، مستحضرا منطق الواقع الذي شوه خلقته وحلمه، دون أن يعيد له ولادته المغتصبة، فكبله بالأشكال الممسوخة اللامنطقية التي تسكن واقعنا العربي. لذلك فعملية الكتابة الجسدية ولدت فجوات في الخطاب اللغوي الناتج عن انزلاق المدلول على الدال ولتطابق الرؤية الأنثوية مع الرؤية الاجتماعية.
ما يثير اهتمامي أن ما ضيعه المخرج هو إظهار الواقع بعفوية عن الجنس، والدعارة، والموت الباطني، والتهميش من دون أن نفكر في ذواتنا ما دمنا نستخدم هذه المفاهيم في واقعنا وبطريقة تعادلية بين عالم الأشياء وعالم الكلمات وكما، أن الرؤية الضمنية في الخطاب ينطبق تماما على نظام الواقع في بداية هذا التحليل، الممتد حسن العلوي المراني على الواقع كمرجع لكييرسي منهجه الفكري على قاعدة نظرية وكآلية التي ترفع الرقابة على الجسد من قبل العقل الواعي، فاتحة لنهاية الحلم، والخيال، كما عبر عنها السوريالي في بيانها الأول سنة 1994 وهذا الانفجار لكلية الحقيقة التي تواضعنا عليها هو إنكار للحضور المطلق للجسد الآخر الذي يتمتع محتواه بحضور الرجل الفعل حضور قيمي، وهيمني يريد أن يعيش اللحظات غير الحاضرة في الواقع، ويكون البعد السيميائي الآلي بداية حقيقية حول الرغبة والصحوة المثالية وكشف واكتشاف لهذا الجسد المتعالي، إنه جسد يحقق كينونته بتكسير أقضية اللغة لتأسيس حقيقة المجتمع السلطوي الذي يقبع تحت هيمنة الفحولة فحقيقة مسرحية “الكود” والساروت هو ارتداد غلى مقولات تمثل وعيا داخل الجسد، لا يتطابق مع معناه المضاعف، جسد الممثل الطبيعي جسد الممثل جسد الشخصية وهذا التعيين ينطلق من الطبيعي في حالة البقاء إلى حالة يكون فيه هو الذي يمتلك اللغة، ويسكنها قبل أن تسكنه، ويعلن حضوره من خلال جدل يتجاوز النفي المطلق للوصول إلى لحظة المتعة واللذة، لحظة غير متناهية يلتقي فيها جسد الممثل بالوجود الممكن في لحظة التأويل الركح، فيبقى هذا الجسد الأيقوني رهين الخيال الذي يتمسرح أثناء الإخراج.
يتناول حسن العلوي هذه اللغة المجازية لتكون بنية جسدية نصية تولد انزياحات بلاغية وفعالية في النص الممسرح، ولتعيد لهذا الجسد أداته الاستكشافية يفتح عبره بياضات لتتجاوز المثل العليا وغموض المعنى ولتنزيل الإنسان ليصبح درة ضمن الدرات المتشابكة والمنفصلة، وهذا الذات اللاتلازم بينه وتجلياته مع احتفاظ بالمغايرة، من هنا تنشأ الاتسوية المتشظية بين الوحدة والتعدد، والعرض والجوهر، وتثبيت لمرجعية متنوعة، وخلق وتخصيب ذاتي لفعل الكتابة الجسدية، من هنا يأتي الاختلاف حسب المخرج ليصير فعالية لا تكتس الخارج الواقع / بل تصدع كل البنى المهيمنة (النصية)، لأن التخطي “النسيان” الأنطولوجي النصي هو تبعثر لقوى الذاكرة المتعالية والذي يحصل فعل التمسرح الجسدي متعة منورة من سلطة المعجم الرجولي فتسلب التمركز بالمعنى الفرداني هو زرع الشك في يقينه وذاكرته، حيث يعمل النسيان المؤجل وفق منطق احتمالي شكي، يقيم لتاريخ الجسد تحويلات آلية منبثقة من الصورة والكلمة، والحركة، فيغدو الجسد المتعالي نصا آخر يستعير آلياته الاستعارية المزدوجة لكسر المفاهيم الواقعية المتراتبة، دون السقوط في ميتازيقيا الحضور، غن إنتاج هذه المسرحية هي استعادة للخطابات التي لا تتبنى على مقولات نظامية أرسطية (معنى – حقيقة – كلية –مقصدية– جوهر …) بل هي انفتاح على اللذة ضد المنطق، والتواصل الجواني ضد البراني، وغياب ضد الحضور، والهامش، ضد المركز.
فحسن العلوي في تمظهراته الإخراحية لا يفكر في الكتابة تحت سقف الذات، بل يظل مرتبطا بأمراس الوعي التجريبي لأنه يخضع لضرورة اللعبة التمسرحية، يرتجل من جهة إلى جهة أخرى ومن منهج إلى منهج بغية الارتباط بالغربة الفرجوية التي تجعل المتفرج لا يزج به في اللعبة، بل يفكك الأصول والأسماء، والعناوين ليواكب الإبداعات الظاهرة والباطنة، وذلك تحت وطأة التأويل، والتفسير وهو ما يدفعنا إلى البحث عن الامتدادات الركحية والمشكلة مع ذاكرة النقد تجعل رؤية المخرج تمتد عبر التأويل اللامتناهي ما يجعل التنوع هو الفكر الذي يتسم بالشيوع والانتشار، وهذه الرحلة كما قلت في شدة المسرحيات هي اقتراب من التجريب والانفتاح على الجسد بواسطة الجسد، فالمفرد “الجسد هو لحظة طبيعية لكن في ماهيته يحضر الجسد المميز، لأن القناع والتقمص، والإمارة أبدعت لنا شعرية التي هي باعثا على رؤية الجسد المضاعف، والمسرح هو إبداع جمالي، وعملية تذوقيةفرجوية، معنى ذلك أنه خاضع للتأويل، وصولا إلى المبتغى التأملي النقدي، فهذا القول يذهب إليه المخرج حسن العلوي ليؤسس لعلاقة جدلية بين الشخصية الجسد / والمتفرج المؤول لهذا الجسد، وهذا التبلور دفعه إلى طرح السؤال التالي كيف يتلذذ الممثل بجسده؟ هل يندمج فيه أم يخلق مسافة بينه وبين هذا الجسد المشخص؟ وكيف يجد نفسه بعين الكتابة والقراءة الرقمية؟ هل لهذا التعالق الجسدي منطقا خاصا لا يلتزم بالنص؟ إذا كان تلقي الجسد أي جسد مضاعف متغير باستمرار لأنه طريقة إنتاجية تتحول وتتلون وفق منطق المخرج كما أن المتفرج لا ينطلق من نقطة الصفر، فهو يتهم بتوسيع خياله الذوقي، والمعرفي، ويطور أدواته المنهجية بشكل عقلاني، يمكنه من الكشف عن عناصر مضمرة داخل الجسد.
وهذا في نظري تحول جوهري في مركزية التأويل أو الجسد الذي مزق من الممثل الطبيعي، ووضع نارا وقادة وحارقة في متخيل المتلقي أو المتفرج، بحيث صار هذا الجسد الركحي مبعثرا (بمفهوم ديريدا) على وجه الفضاء وبين ثناياه وفي فجواته وإلتواءاته، صار المخرج بدوره قارئا لهذا الجسد ليملأ هذه الفراغات وصولا إلا استجلاء معانيه الضمنية التي ينطوي عليها، والتي تعطي وزنا ودلالة، وتخصيبا له كما يره إيزر[3] هكذا فكل جسد بلا متفرج هو نص مغلق، فبحضوره يتم التعاون لكسر المسافة بينهما، لأنه يتضمن الاتحاد بين كليهما في عملية التذليل الصعوبات الانتمائية والتأويلية، إن المتلقي أو المتفرج المتضمن ينسج دلالة جسدية انطلاقا من فهمه وإبداعيته له إذ لا مجال لفهم جسده كنص إلا بواسطة شروط التي تستند إلى بنية تأويلية تفكك أواصر الجسد المؤول، ويرى بيترزوشدي في هذا المقام “ولا مجال للتأويل إذا لم تسبقه قراءة ذوقية ينتبه عبرها المتلقي إلى موطن الخلق الأسلوبي والتجاوز النصي”[4].
إن هذه الدياليكتيكية التأملية بالغة الأهمية بالنسبة لكل جوانب فلسفة المخرج، وبناء عليه فالدياليكتيك ليس مجرد سمة من سمات القراءة البسيطة، ولكنه يشكل أيضا تطور الجسد من العالم المادي، إلى العالم المجرد والمحسوس، وهذا التراسل الحواسي هو نظام فلسفي سردرامي قادر على فهم العلاقات بين مجالات التجربة المتنوعة في مسرحية موز وتفاح، لكارلوس فونيطس، ولعبة الحرية لمروزيك، إن هذه المعادلة بين العقلانية الركحية والواقع الجوهريفي بناء المخرج للتقدم التاريخي المسرحي بوصفه حركية جدلية، وكذلك أساسي في جوهره أن حركة هذه الجدلية هي في كينونتها تاريخية في مضمونها.
فالمخرج حسن العلوي في تمسرحاتهالركحية يبرز لنا هذا التأكيد عن طريق وضع الممثل على قدم وساق مع تطور الواقع، والروح، والفكر، لأن تطور الممثل هو عملية واعية ذات وساطة ذاتية، ويقدم لنا هذا التحول متتاليا للأجساد إذ يمنح كل منهم براعة فنية لتتحرك من ثم بإبراز الواقع الممكن، وبهذا يشكل الجسد عنده نقدا للراهن الثابت ليخلص هذه الأجساد المقيدة من كل براثين الماضي لكي تتولى الروح المظهرة كامبراطورية العالم الجديد ليس بالمفهوم المطلق (الهيجلي).
إذن يصور المخرج في هذه السلسلة المسرحية المذكورة نوعا من الحركات التكتونية التي تخترق كل المضامين بروح جديدة للاتصال بالواقع نحو الممكن الذي يحتوي في دواخله كل ما بقي، وما ترسب في الروح المضمرة، كل هذا تحت رعاية منطق الإخراج، بهذه الطريقة يصبح جسد الممثل سرد التقدم الحتمي، وخاصة عندما تغدو الرغبات الفردية والجماعية مشمولة بالجدل التأملي لهذا التاريخ المنبثق من الاتصالات التي تتم عن قوة تأليفية أكثر ما تهم عن قوة يقينية كما ذكرت سالفا.
إن نتيجة هذه المقاربة التمسرحية هي ما يشير إليه المخرج بعقلنة الجسد التجريبي، حيث لا تتطابق أفكارنا مع الواقع الخارجي كما في مسرحية ليامآليام، فهذه المسرحية هي إظهار التجربة الإنسانية المتمركزة حول الإنسان بدلا من قوة خارجية، لأنها تتعلق بالتدخلات السياسية والفلسفية والأخلاقية للنقد الحديث، وهذه الرؤية هي مشروع لم يكتمل بعد، بل ظل تفسيرا وتحولا مستمرا لمفهوم الجسد في الحقبة التي يعيش من أجلها ويفتح ذراعين لإبداعات المستقبل حسب تعبير (هابرماس) فالمخرج حسن العلوي يهدف دوما إلى تغيير لون النص، واختيار حدود التمثيل، واللغة الدرامية، لمواجهة توقعات المتفرجين حول طبيعة هذا التوظيف المسرحي، وهذه الرؤية الطليعية تكشف عن مسافة التوتر التي تنطوي عليها النصوص المسرحية تحديدا من ……. قراءتها وفهمها، وديناميتها التوليدية، وصولا في النهاية إلى عالم البعد المضمر الذي يظهر على الركح، وبهذا الصنيع يثير المخرج بطريقة غير مباشرة إلى هذا الدور الذي يلعبه الجسد، كونه محقق على نطاق الفعل، لنه يعيد كتابته ونظمه بنفسه، وعبر فجواته أيضا يؤثث هذه الجغرافية ليكسبها تحققها الجمالي، وعليه فإن المخرج يستحضر في بحثه عن المعنى المؤجل في النص المسرحي دون أن يذكر ذلك صراحة، وهذا المؤجل قد يتطابق مع مسافة التوتر كما ذكرت ومن خلال التغيرات التي تسود النص المسرحي والمخرج يتعامل مع العالم الخارجي تعاملا غير ميكانيكي، ينقلنا من الثابت ليدمجنا في وجودية النص الممسرح يصبح فيها المتفرج كذات فاعلة ومتفعلة، ويكون الممصل هو الواسطة بين الذات والأشياء، مؤسسا على الانحراف والعدول كبعد تركيبي ودلالي، حيث يرى في المسرحية المذكورة درجة العدول مما يخلق توثرا في بنية الوعي وعمقا أقرب إلى الفصام الذي يأتي فيه الواقع بسبب انقطاعه عن أي سياق سياسي، قبل جسد الممثل الطبيعي إذ عمل شحنة قائمة من التأثير يمكن وصفها هنا بشكل سلبي كقلق الوجود، والقيم، ولكن يمكن للممثل أن يتصورها تمتما من ناحية إيحائية على شكل تشوه أو أخاذ جميل وبعبارة أوضح، فإن تحول الخبرة الجسدية إلى تدفق في التأثير قابل لتبديل، حيث ينتج كل شيء موجود للرؤية فقدانا للواقع مرعب ومقلق في أنه لم يعد هناك أية أرضية للتجربة التأويلية المغلقة كما في مسرحية لعبة الحرية في هذه المسرحية تستوعب قدرا من الكلام، وأقل مساحة من الزمن الكميائي أي المعنى والحدث، وهي ذات إيقاع درامي استطاع المخرج حسن العلوي أن يلتقط عماق النص بتحولات (صيحة التي لم يجرؤ الكثير على قولها) فهتفت الشخصية في وجه الواقع، ثم في وجه السلطة التي لا تقل عن ذلك المشيد، هذا اللون يعكس لدى الشخصيات وعيا فنيا متقدما تخطى مرحلة العفوية والتلقائية إلى رؤية عالية قادرة على خلق التوازن والانسجام بين القضية والفن المسرحي.
[1]– محمد جمال باروت، “في منطق ما بعد الحداثة”، مجلة الكرمل، 1997، ص 52 – 53.
[2]– إليزابترودنسون، تاريخ علم السيكولوجيا في فرنسا، دار النشر رامسي 1986 – 1982، ج 1، ص 244.
[3]– إيرز فولفغانغ، التفاعل بين النص والقارئ، تر: الجيلالي المدية، مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، العدد 7، 1992، ص 10.
[4]– د. عبد الفتاح أحمد يوسف، “استراتيجيات القراءة في النقد الثقافي”، مجلة عالم الفكر، الكويت، ع 1، مج 36، يونيو – سبتمبر 2007، ص 166.
محمد بلمو أديب وشاعر مغربي