جريدة رقمية مغربية
متجددة على مدار الساعة
اشهار ANAPEC 120×600
اشهار ANAPEC 120×600

فيروس الإعلام .. وإعلام الفيروس

جورنال أنفو

بقلم: ذ سعيد مبشور
صراحة، لم أشاهد القنوات الوطنية منذ حوالي 18 سنة، وحتى القنوات الدولية لم أعد أشاهدها إلا للاطلاع على آخر المستجدات على رأس الساعة أحيانا، خاصة وأنني لا أتوفر في غرفتي الخاصة على جهاز تلفاز، ولكوني لا أغادرها إلا لماما، فإنني بالتبع لا أنظر وجه التلفاز إلا نادرا أيضا.
أنا مستعمل نهم للأنترنت منذ عرفتها أواخر التسعينيات، وقد وجدت فيها أداة سريعة وفعالة لإشباع رغبتي في المعرفة والاطلاع على آخر الأخبار والمعلومات، وهي عندي شغفي الثاني بعد المذياع الذي كنت أعشقه منذ الصغر، أما التلفزيون فلم يستهوني مطلقا، بل إن المُدَد التي قضيتها وأقضيها أحيانا في مواجهته تأخذني من عالمي الدائري الذي سرعان ما أشتاق الرجوع إليه، اللهم إلا ما كان من أعمال درامية اجتماعية وتاريخية كانت تشدني في شهر رمضان إلى شاشة التلفاز سابقا، وصارت اليوم متوفرة على منصة اليوتيوب.
واليوم، في زمن الكورونا، الفيروس الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، بدأت العلاقة بيني وبين قنواتنا الوطنية تعود تدريجيا، بفعل تواجدي الدائم في البيت، وتنقلي من غرفتي الخاصة إلى غرفة الجلوس والطعام حيث العائلة تجتمع أمام جهاز التلفزيون، انتظارا لحصيلة اليوم من مصابي الفيروس، أو مشاهدة لنشرة إخبارية، أو متابعة لبرنامج حول الوباء وسبل الوقاية من انتشاره.
لم أجد فارقا كبيرا بين التلفزيون الذي تركته قبل عقد وبضع سنين، والمشاهد التي أتابعها اليوم، اللهم إلا في بعض المناظر الداخلية للاستوديوهات، بل إنني أكاد أجزم، وأنا المتابع لأغلب ما يّكتب من نقد وتحليل عن الإعلام، أن قنواتنا كانت أفضل بكثير في العقود الماضية، حين كان للثقافة والمعرفة والتوعية حضور أكبر، وللبرامج الترفيهية التي تسيطر على محتوياتها عقلية التجارة والتسويق مساحة أقل، فقد غدا التلفزيون اليوم ساحة للمنافسة التجارية، تتلاعب فيها الشركات بعقلية ونفسية وذوق المشاهد، وتخلق للناس نجوما ومشاهير تافهين.
يعرف أصدقائي جهلي المطبق بأسماء الكثيرين من مشاهير اليوم وطنيا وعربيا، فبالكاد أحفظ أسماء بعضهم، وتتشابه لدي وجوههم حتى أنني لا أفرق بين أسمائهم ووجوههم في أغلب الأحيان، ولطالما اندهش البعض من أصدقائي حينما يتحدثون عن واحد ممن يهدرون أوقات العامة ويسيطرون على عقولهم، فلا أعرفهم، بل يحدث أن أسمع عن فلان أو فلانة من مشاهير عالم الفن أو الميديا متأخرا، فأطلع على الضجة التي صاحبته بفعل إنتاج فني أو صخب إعلامي بذيء، وأتجه من أجل ذلك إلى قنوات التواصل الاجتماعي، لأكتشف أن ما أطلع عليه الآن قد تابعه قبلي بالفعل ملايين المشاهدين.
وقنواتنا الوطنية التي كان بعضها إلى وقت قريب يعاني من قلة الإمكانيات وأزمة متابعة خانقة، تحقق اليوم نسب مشاهدة عالية، مع أن غالبية برامجها تنحو إلى توعية وتنبيه المشاهد من مخاطر التعرض لعدوى الكورونا، وبغض النظر عن مستوى احترافيتها ولأن ما يعرض اليوم على قنواتنا في غاية الجدية، فإن متابعة المواطنين لها تتسم بطابع الثقة والجدية أيضا، وقد تفوق نسب المتابعة لبرامج قنواتنا الجادة هذه الأيام، مثيلتها التافهة والتجارية الرخيصة في باقي الأيام، وهي مناسبة لأصحاب القرار الإعلامي في بلداننا للاتجاه أكثر إلى احترام عقل المواطن، وإنتاج عرض إعلامي أكثر رقيا، يجمع بين المنطقين، منطق ربح المال ومنطق ربح مواطن قادر على إنتاج الثقافة والمعرفة والوعي الاجتماعي.
لقد ضيعنا زمنا طويلا وجهدا أكبر في التفاهة والضحالة وتسطيح الوعي، فلماذا لا نتجه بنفس الجهد إلى إنتاج النقيض من ذلك كله، ونتجاوز كل الوقت الذي أهدرناه اليوم في وصلات تعليم الناس كيفية غسل اليدين.
*سعيد مبشور كاتب وإعلامي مغربي

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.