جريدة رقمية مغربية
متجددة على مدار الساعة
اشهار ANAPEC 120×600
اشهار ANAPEC 120×600

الحي المحمدي..حول “حصلة” دوزيم

جورنال أنفو

 

*سعيد مبشور

تابعت كما تابع العديد من أبناء الحي المحمدي ومن مشاهدي القناة الثانية، الشريط الوثائقي المعنون بـ: الحصلة الحي المحمدي بين الأمس واليوم، والذي يدعي صانعوه منذ البداية أن هدفه هو البحث عن بقايا ماضي الحي المحمدي بكل ما يحمله من معان ثقافية ورمزية، من خلال معاينة واقعه الاجتماعي الراهن، ليكشف لنا بعد متابعة نماذج من أبناء المنطقة مدة عام كامل، حجم الانفصام والانفصال بين ماضي هذا الحي العريق وحاضره، ويعلن عن “اكتشافه” أن الحي يعيش اليوم واقعا اجتماعيا مرا هو بمثابة “حصلة” حقيقية للأجيال الجديدة وسط عوالم البطالة والفراغ والمخدرات والجريمة والرغبة في الهجرة السرية.

في استعمال “الحصلة”

كلمة المأزق هي ربما أقرب لفظة عربية فصيحة مرادفة للفظة الحصلة العامية، ويحيل الاستعمال الرمزي لكلمة الحصلة في عنوان الشريط، إلى أغنية لمجموعة المشاهب، إحدى أهم ظواهر الأغنية الاجتماعية والسياسية بالحي المحمدي، لكن مضمون الساعة الزمنية التي يمتد عليها وثائقي شركة عليان، ابتعد كل البعد عن الحصلة التي تحدث عنها إبداع المشاهب، من حيث هي صرخة أطلقتها المجموعة في زمن اتسم بالصراع المرير من أجل الكرامة وإقرار الحقوق، فكانت كما أغلب أغاني الجيل الغيواني، نهرا من الأسئلة يحمل في طياته كل معاني الصمود والمواجهة والأمل، ودقة في جدران الخزان على حد تعبير الروائي العربي الكبير الشهيد غسان كنفاني، وشعلة أمل وسط ظلام القمع والقهر الاجتماعي.

لكن وثائقي القناة الثانية، يوحي بمعنى آخر مغاير تماما، وهو أن الانتماء إلى حاضر الحي المحمدي يعد في حد ذاته مأزقا وجوديا، من حيث أنه مجرد فضاء للبؤس الاجتماعي وما ينتج عنه من ضياع وسلوكات وانحرافات وظواهر إجرامية، وأن العيش فيه هو بالضرورة انغماس كلي في هذه الظواهر وأن النماذج الإنسانية (بما أنه وثائقي حول القصص الإنسانية) التي تعيش في الحي تعاني بالتبع من نتائج هذا الظواهر وتبعاتها.

النماذج البشرية التي اختارها البرنامج:

لتبرير نظرتها الاختزالية لشباب الحي المحمدي وطبيعة حياته اليومية، اختارت مخرجة البرنامج التعامل مع نماذج بشرية عينية، لكن طريقة انتقاء هذه العينات شابها الكثير من التبسيط والتحيز الذي يضعنا أمام أسئلة وشكوك متعددة حول خلفيات البرنامج وأهدافه غير المعلنة، فقد تم التركيز على عينة من الشباب الذي ينثل شعوره بالغبن والتهميش والإحباط حالة عامة لا تقتصر على الحي المحمدي وحده وإنما تتجاوزه إلى فئات واسعة من شباب البلاد كلها.
لقد كان شعور الشباب بالتهميش والغبن الاجتماعي سمة دائمة في الحي المحمدي كما في باقي الأحياء الشعبية في كل المدن المغربية، وهذه الحالة هي إحدى مسببات بروز ظواهر الجنوح بكل أنواعه والهجرة السرية وسيادة عدم الثقة بمؤسسات الدولة، لكن برنامج القناة الثانية أراد تحميل الحي المحمدي كل معاني الانهيار القيمي والاجتماعي، باختزاله الوضع في الحي في عينات من أبناء الشعب أنهكتها السياسات المتعاقبة والمحاولات الدائبة لإفراغها من محتواها الشعبي الذي ينحو تلقائيا نحو الفرادة والتميز والتمرد، وإلا فإن في الحي المحمدي اليوم مئات إن لم نقل آلاف النماذج الشبابية الرائعة في النجاح والنبوغ والإنجاز في مختلف المجالات.
ووسط هذا “التلاطم” الذي اعترى دقائق البرنامج، يصر صانعوه في جينيريك النهاية، على الإشارة إلى أن الوثائقي، هو ضمن سلسلة منحوها اسم: السلسلة الوثائقية مغاربة المستقبل، فأي رسالة يريد أن يقدمها البرنامج عن مستقبل شباب المغرب، ولمصلحة من ؟ وبتمويل ممن ؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن يجيبنا عنها مكتشفو قارة الحي المحمدي.

استهداف ذاكرة الحي:

يستمد الحي المحمدي رمزيته الصارخة، من كونه ذاكرة حية ممتدة في التاريخ المغربي المعاصر، ومجالا خصبا للتمرد والإبداع الإنساني والجمالي اللامتناهي، وقد أخذ هذه الصبغة منذ بدايات تأسيسه الأولى في مطلع القرن الماضي، حيث بدأ حيا عماليا، جمع بين دروبه فئات اجتماعية متحدرة من كل مناطق المغرب، جمع بينها الطموح في الاستفادة من التحولات الجديدة التي رافقت مطلع القرن العشرين، في حين وفدت فئات أخرى كثيرة إلى الحي بعدما ضاقت بها مناطقها الأصلية بفعل الاستغلال الوحشي للأرض والإنسان الذي كان سمة الاستعمار الفرنسي، وهو نفس الاستعمار الذي سيجد أبناء الحي المحمدي الأوائل أنفسهم في مواجهته وهو يمعن في ممارسة القهر وإهدار الكرامة والاستغلال الرأسمالي البشع، وهكذا ظهرت أولى خلايا المقاومة، وظهر معها وعي الحي المحمدي المبكر بثقافة الحرية والمسؤولية، وتحول بالفعل إلى رمز حقيقى لمقاومة المستعمر ببطولات أبنائه وصمودهم أمام آلة القمع الفرنسية، بل إن هذا الرمز تجاوز حدوده الشعبية ليتحول إلى رمز للملكية نفسها، حين أطلق الاستعمار الفرنسي على السلطان محمد الخامس لقب ملك كريان سنطرال.
وبعد الاستقلال سيلعب الحي المحمدي دورا رائدا في دينامية التحولات الجديدة التي سيعرفها المجتمع المغربي، فقد كان من الطبيعي أن يستمر الحي في إنتاج وعي الحركة الوطنية كما ساهم في إنتاج وعي المقاومة، وكان من الطبيعي أيضا أن يشكل الحي المحمدي مهد الدينامية النضالية من أجل استثمار أجواء الاستقلال والتحرر من ربقة الاستعمار، وتنبعث من ثنايا دروبه مشاريع العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي التي بدأت إبان فترة الكفاح الوطني، وسبجد أبناء الحي أنفسهم منخرطين في بناء المغرب الجديد، حيث شهد الحي ميلاد أولى بنيات التأطير الشبابي التي تمثلت في تشييد أول دار شباب بالمغرب، وهي مؤسسة دار الشباب الحي المحمدي العريقة، وفي نفس الحي تشكلت أهم مؤسسات تكريم ورعاية أبناء شهداء المقاومة، وبرز نادي الاتحاد البيضاوي بكل فروعه كمحضن لأبدع الطاقات الرياضية وأنشأت جمعيات رائدة في مجالات التثقيف والتنشئة الاجتماعية، وانبثقت فرق مسرحية ومجموعات غنائية لا تزال إلى اليوم مبعث فخر وإلهام لكل المغاربة.

وصمد أبناء الحي المحمدي في مواجهة تبعات الصراع السياسي بين السلطة وقوى الحركة الوطنية، في الحقبة التي عرفت بسنوات الجمر والرصاص التي عانى فيها أبناء الحي ألوانا من القمع والتهميش ومصادرة الحقوق، بل إن أبشع سجون تلك الفترة سيئة الذكر، سجن درب مولاي الشريف، كان في قلب الحي المحمدي.
وحينما بدأ مسلسل طي صفحة الماضي، كان الحي المحمدي جزءا من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ذات الصلة بجبر الضرر الجماعي، حيث أوصت الهيئة بالعديد من الإحراءات الهادفة إلى القطع مع الماضي ورد الاعتبار لساكنة الحي المحمدي في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصياغة مشاريع لحفظ الذاكرة، وهي البرامج والمشاريع التي لا تزال تراوح مكانها إلى اليوم، ولا زالت الحكومات المتعاقبة تمارس بصدده كل أنواع المماطلة والتسويف.
وإذا كان الاستعمار قد حاول طمس ذاكرة الحي المحمدي وهويته النضالية، وهو ما زادت في تعميقه سنوات الرصاص، فقد نجح الحي المحمدي في صنع ذاكرته الجماعية الخاصة، التي لم تنجح لا الإدارة الاستعمارية الفرنسية ولا سنوات القمع في محوها، ولن تنجح محاولات بائسة مثل برنامج شركة عليان في القضاء عليها.
إن ذاكرة أبناء الحي المحمدي معطى ثابت وإن تكالبت عليه محاولات المحو المتعددة، وذلك ببساطة شديدة لأن إبداع أبناء الحي متواصل وتضحياتهم متواصلة وشعورهم بالمسؤولية الوطنية لا تنال منه عوامل الرداءة وتحولات الزمن.

نقطة إلى السطر

وأخيرا وليس آخرا، فإن من يعاني حصلة حقيقية اليوم، هو هذا البرنامج الفضائحي بتعبير الكاتب العربي الراحل شاكر النابلسي، من حيث أنه ينتمي إلى موجة الفضائحية الجديدة التي غزت فضاءنا الإعلامي، فهو شريط فضائحي ليس من حيث ادعائه تقديم صور واقعية مجزوءة فقط ولكن أيضا من حيث الشكل الفني والمقاربة التزييفية للواقع.
ولهؤلاء ولأمثالهم نقول، خذوا ما شئتم من ريع الزمن الثقافي الراهن المبتذل والبذيء، ومارسوا كيف شئتم الارتزاق بآلام الشعب، لكنكم لن تنالوا من ذاكرتنا الممتدة في ماضينا والمستمرة في حاضرنا، فسيبقى الحي لأنه حي، وستذهبون لأنكم مستنبتون وطارئون.

 

*صحافي وكاتب

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.