عبد العزيز كوكاس: نصب العداء للمغرب أصبحت له كلفة عالية على النظام الجزائري
بقلم الأستاذ : عزيز كوكاس
في قلب الوقائع الكبرى في السياسة تكمن حوادث صغيرة هي المحرك الأساس الذي من كثرة انشغالنا بفقاعات الأحداث البارزة، ننسى الحكمة الإنجليزية التي تؤكد أن الدواليب الكبيرة تديرها محركات صغيرة كما في الساعة الحائطية، في الصراع الجزائري المغربي كان السياسيون وحدهم من يتكلمون ويتبعهم الإعلاميون في تشريح طبيعة هذا الصراع الذي غدا مثيرا للانتباه من كثرة تناسل وقائعه وطول المدة التي استغرقها بين بلدين جارين، فيما صمت المحللون والسوسيولوجيون الذين ما أحوجنا لإنارتهم لجزء من هذا العداء الاستثنائي الذي يتكرر بين الرباط والجزائر، وكيف تتفرغ دولة بكافة أجهزتها وبميزانيات ضخمة وجيش من الدبلوماسيين والسياسيين والإعلاميين والموظفين في مختلف سفاراتها بالعالم فقط للرد على قرار مغربي أو وضع حصى صغيرة في حذاء الجار الغربي..
ثمة وقائع كثيرة حكاها دبلوماسيون غربيون اشتغلوا في قلب الجزائر أو رؤساء دول في المحيط الإقليمي من خلال مذكراتهم، تدل على تناسل عقد كثيرة لدى جيل من الفاعلين السياسيين والعسكريين الجزائريين اتجاه المملكة هي سبب كل هذا العداء الذي لم تنفع معه وساطات ولا دواء اليد الممدودة التي وجهها المغرب أكثر من مرة لحكام قصر المرادية لطي النزاع وفتح صفحة جديدة بدءا من فتح الحدود وترك مسألة الصراع حول الصحراء بيد الأمم المتحدة، والتعاون في ملفات اقتصادية وأمنية ملحة وذات أولوية..
هذه العقدة المستفحلة ولدت مع هواري بومدين الذي حول الصراع مع الملك الراحل الحسن الثاني إلى مسألة شخصية، يقر بذلك الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد في مذكراته، قائلا: “العلاقة بين هواري بومدين والحسن الثاني كانت متصلبة، وكأنما بين الرجلين حساب قديم يجب تصفيته، وحقد دفين لم يستطيعا تجاوزه، وخلق هذا كلّه جوا من الشك وانعدام الثقة بين البلدين”، والسبب هو أن الجيش حين انقلابه على زعيم تحرري من حجم أحمد بن بلة، كان يحتاج لما يؤجج التعاطف مع هواري بومدين ويبرر انقلابه، ولم تكن حرب الرمال سوى حصان طروادة الذي ركبه بومدين حيث حمل مسؤولية هزيمة الجزائر إلى سوء تدبير الرئيس بن بلة، لذلك اعتمد عقيدة الخطر المغربي، وسبق أن حكيت في سياق آخر أن مجرد عبارة طلب الراحل الحسن الثاني من الإبراهيمي مبعوث بومدين إلى الرباط، أن ينقلها إلى الرئيس الجزائري وهي: “إذا لم نلتق هنا فسنلتقي يوم القيامة”، كيف أوّلها هواري بومدين بأنها تهديد مباشر بالقتل أو بشن هجوم على الجار الشرقي للمملكة، وخلقت المخابرات حكاية طريفة كان الهدف منها إبراز روح التحدي والقوة لدى شخص بومدين، تقول الحكاية التي يحفظها الجزائريون عن ظهر قلب بكثرة ما روجتها الأجهزة، أن الحسن الثاني قال لبومدين: سأشرب الشاي في وهران، كناية عن عزمه اقتحام الجزائر عسكريا، وأن هواري بومدين رد عليه: “إذا درتي أتاي فوهران، نعطيك شلاغمي ديرهم نعناع”، الحكاية كلها مختلقة، ولم نعثر عليها في المصادر التاريخية المحترمة ولا في مذكرات المقربين من دائرة الرئيس هواري بومدين، ولا تتماشى مع طبيعة الرجلين الراحلين.
لكن لماذا استمرت هذه العقيدة حتى مع رحيل هواري بومدين وتعاقب تسعة رؤساء جزائريين بالإضافة إلى مرحليتين استثنائيتين حكم فيهما المجلس الأعلى للدولة وملك آخر لم تكن له يد في كل الجراحات السابقة التي نشأت بين الحسن الثاني والقادة الجزائريين؟
يكمن الجواب في الجيل الذي خلقه الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، الذي أصبح يطلق عليه “حلوف بومدين”، والذي نشأ على عقيدة كراهية المغرب كنظام سياسي وكتاريخ وجغرافيا، فما أن يتحمل أي واحد من هؤلاء القادة مسؤولية في جهاز الحكم حتى يبدأ في مناصبة المملكة العداء للحصول على حسن السيرة والسلوك من طرف قادة العسكر الحاكم، هذه العقيدة مزيج من الغيرة من موقع المغرب ومن استقراره وتاريخه وعشق الآخرين له، يكشف برنار باجولي الدبلوماسي الفرنسي والمدير السابق للاستخبارات الخارجية الفرنسية، في كتاب “الشمس لن تشرق أبدا على الشرق”، الذي استعرض فيه ذكرياته كسفير سابق بالجزائر، تحدث باجولي عن أول لقاء له مع الرئيس الجزائري، حيث اشتكى عبد العزيز بوتفليقة من تقديم فرنسا العديد من الامتيازات للمغرب على حساب الجزائر، وصرح بنبرة عتاب: “تتحدثون عن وجود علاقة متميزة بين فرنسا والجزائر، في الواقع إن الدولة الجزائرية لم تر أي معاملة مميزة من قبل فرنسا، إن الرئيس شيراك لا يخفي حفاظه على علاقة أسرية تقريبا مع ملك المغرب، وفرنسا حجزت كل امتيازاتها لفائدة المغرب، أما الجزائر فلم تر شيئا منها”.
وحين أوضح باجولي لبوتفليقة “أن موقف فرنسا لا ينحاز لأي طرف، لكنها قد تتأثر بالشعور بأن قضية الصحراء حيوية بالنسبة للمغرب، في حين أنها ليست كذلك بالنسبة للجزائر، وقد أجابني الرئيس بوتفليقة: “نعم إنها ليست حيوية بالنسبة لنا، لكن اعلموا أنه لا مغرب عربي دون إيجاد حل للقضية”.
عمل كل الجنرالات الذين حكموا مباشرة أو من وراء الستار على إشاعة “عقدة المراركة”، وزاد من حدة هذه العقدة أن جل الرؤساء الذين حكموا الجزائر بعد الاستقلال، ولدوا أو كبروا في المغرب وعاشوا فيه عقود طويلة، وكانوا يسمون بـ “المراركة” أيضا، ومن أجل إبراز أنهم جزائريون أقحاح، أصبحوا أكثر جزائرية من الجزائريين ولادة ونشأة، وكلهم إذا ما استثنينا محمد بوضياف- كانوا يحملون عقدة النظر إليهم كمغاربة يحكمون الجزائر، لذلك تطرفوا في نزعتهم القومية الضيقة، وكانوا يحاولون دوما تحويل الهزيمة في حرب الرمال عام 1963 إلى انتصار إيديولوجي وتفوق إقليمي وسباق نحو التسلح وصل حد تخصيص الجزائر لربع ميزانيتها للعتاد العسكري، فسادت إيديولوجيا عامة عقدتها الرئيسية “الرهاب” من العدو الكلاسيكي وفي ذات الآن ادعاء التفوق عليه في كل المجالات، يصف صحافي جزائري في مقال له بجريدة “لوماتان” الجزائرية تحت عنوان “لماذا تكره الجزائر المغرب؟” الخلفية التاريخية لهذا الوضع قائلا: “إن النخبة الجزائرية تعيش مشكلة حقيقية مع المغرب، إنها تؤاخذ عليه ما تسميه “النرجسية التاريخية”، أي كونه أقدم دولة/ أمة في المنطقة، وأنه يتصرف باعتباره كذلك.. لقد ربت الجزائر أجيالا بكاملها على فكرة كون مغرب قوي يشكل بالضرورة خطرا على الجزائر، لأن “نزعة التوسع راسخة في جينات الإمبراطورية الشريفة”، إنها وراثة أفكار وتصرفات توضح انخراط مجموع الصحافة الجزائرية، دون تحفظ، في الخطاب الرسمي، ولا يستطيع المغرب شيئا في مواجهة هذا الهذيان الهوسي- الاكتئابي؛ سوى أن ينتبه إليه ويأخذه بعين الاعتبار، أي أن يستعد لجوار عدواني سيستمر لفترة طويلة، لأنه لا وجود لسياسة يمكنها تعويض سرير التحليل النفساني.” (le matin dz عدد 29 أكتوبر 2013).
لعل هذا ما يفسر أن الرؤساء الذين كانوا يحاولون إنهاء الصراع بين المغرب والجزائر ينتهي بهم الأمر إلى القتل أو التنحية لمجرد النية في عزمهم على اختراق جدار خلق العداء الدائم بين البلدين وتطبيع العلاقة بينهما.. خلف أوهام العداء المعلن وتضخيم صورة الجار الغربي وشيطنته عبر الحديث عن نواياه التوسعية وطموحاته الإمبراطورية، تكمن مصالح مالية واقتصادية ديناصورية لنخب الاستخبارات العسكرية ومن يدور في فلكها، ورغم سياسة التقشف بسبب الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلد مع انخفاض عائدات البترول، ظلت ميزانية الجيش تتراوح بين عشر و13 مليار دولار.. إنه المال الذي يجرب في القلب النابض للسياسة.
ولعل سياسة التحنيط المستمر لرأس السلطة بالجزائر منذ تم دفع عبد العزيز بوتفليقة إلى ولاية خامسة وهو على كرسي متحرك مثل مومياء كاد يوصل شيوخ العسكر إلى الباب المسدود، خاصة مع ما تكرر مع الرئيس عبد المجيد تبون بسبب المضاعفات الصحية بعد إصابته بفيروس كورونا التي كانت بردا وسلاما على صناع القرار في الجزائر ولو إلى حين، بعد أن سمحت في التحكم في منسوب انفجار الحراك الشعبي الجزائري.. لكن جزائر اليوم تختلف عن الأمس، فنهاية المد الاشتراكي والحرب الباردة، وتراجع أسعار النفط مقابل وعي متزايد لدى جيل جديد من الشباب لم تعد تنفع معه أقراص دولة المليون ونصف شهيد التي أكل من كعكتها العسكر والنخبة المتنفذة في قلب الحكم، وأوهام دعم حركات التحرر التي لم يعد لها وجود بدورها، وهو ما لم يستوعبه بعد صناع القرار في الجار الشرقي، لقد أصبحت كليشيهات “العدو الكلاسيكي على الحدود الغربية” للجزائر ذات كلفة باهظة على الاستقرار الداخلي وعلى تماسك مركز القرار والتحديات الجديدة التي تواجهها الجزائر اجتماعيا واقتصاديا، وأيضا على استمرار التوتر بمنطقة حيوية لأقطاب السيادة في العالم.