لا لظلم البذلة السوداء !
بقلم الأستاذة : سليمة فراجي
تبعا لما أوردته بعض المواقع الإعلامية من تهكم على احتجاجات المحامين المشروعة بناء على ظلم المشرع لهم من جهة، لمّا اعتبر المريض غير مستهلك وأعفى الطبيب من ضريبة القيمة المضافة، في حين حملها للمتقاضي الذي يلجأ إلى الدفاع، وبالتالي يؤديها المحامي. ومن جهة أخرى، حملات الضغط المتوالية التي يتعرضون لها دون اعتبار لوضعية البعض المزرية حتى وإن كان ظاهر الحال يبين الكفاف والأنفة، خصوصا في بعض جهات المملكة التي لا معامل ولا وحدات إنتاجية ولا شركات كبرى بها، والتي تعيش أزمات خانقة بسبب البطالة وانعدام فرص الشغل وضيق ذات اليد، نقول لهؤلاء إن الزمان تغير وساءت الأحوال بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة، ولم تبق وضعية المحامي هي نفس وضعية المحظوظين الذين شهدهم القرن الماضي.

في زمن مضى كانت صفة المحامي مرادفة للرخاء والثراء، ولا علاقة لها بضيق ذات اليد أو العمل المضني من أجل كسب العيش، وبذلك كان جيل الأجداد ينظرون إليه وكأنه المحظوظ الذي لن يعاني من تقلبات الزمن ومفاجآته، لكن حاليا تغيرت الأوضاع، وأصبح المحامي يعتبر من الطبقة المتوسطة، مواجها بمصاريف قد تتعذر عليه مواجهتها، وبأعباء تتجاوز أحيانا قدراته المادية، وهو المطالب بصيانة مظهره وهندامه وانتقاء الأماكن التي يرتادها حفاظا على وقاره ورصد ميزانية للكتب والمطبوعات، ومواكبة المحكمة الرقمية، وولوج عالم المعلوماتيات، وحضور المؤتمرات والدورات التكوينية من أجل مواكبة المستجدات القانونية والفكرية والحقوقية، علما أن الحقوقيين هم بامتياز محامون يوفقون بين الرسالة النبيلة التي تخدم الإنسانية، بعيدا عن التجارة والعرض والطلب والفوترة – والتاريخ حافل بأسماء المحامين الذين سجلوا أسماءهم بمداد الفخر في تاريخ الإنسانية – وبين ممارسة مهامهم المهنية الصرفة. هم من المفروض أن يمثلوا الشعلة المثقفة التي تدفع بالمجال الحقوقي إلى الأمام، بغض النظر عن التقارير البعيدة عن الموضوعية.
وفِي المقابل يعيشون انتفاضة البعض ضدهم، والقول إنهم يتهربون من الواجبات الملقاة على عاتقهم. ويتعين التنبيه بأن المحامين لما قارنوا وضعيتهم بوضعية الأطباء الذين لا يؤدون الضريبة على القيمة المضافة، على اعتبار أن هذه الضريبة ملقاة على عاتق المستهلك، وأن الطبيب ليس سوى وسيط، وأن المشرع لم يعتبر المريض مستهلكا، في الوقت الذي اعتبر المتقاضي مستهلكا، وفِي هذا التمييز إجحاف بيّن لأن المتقاضي المهضومة حقوقه أو المطالب بها أو المعتدى عليه مطالب بأداء الرسوم القضائية ومستحقات المفوض القضائي وأتعاب المحامي، التي أصبحت في مهب الريح بحكم الأزمة الخانقة التي عصفت ببعض الجهات كجهة الشرق بسبب ضعف السياسات العمومية، وعدم إيجاد البدائل الاقتصادية لمواجهة أزمات الهجرة وإغلاق الحدود والبطالة وضعف القوة الشرائية، وهذا جزء من كل. الأكثر من ذلك، ماذا يستفيد المحامي لما يحال على التقاعد إذا تمت عملية قياس على الموظفين والقضاة؟ ربما تقاعد مستخدم عنده، كان يستفيد من الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي، فصار يتقاضى تقاعدا أحسن منه، خصوصا أن العمل المضني المتمثل في الاستماع المستمر إلى مشاكل الغير، والعمل على حلها، ومباشرة الإجراءات وحضور الجلسات، وتتبع المساطر والتنقلات، كلها أمور ترهق الصحة وتستنزف القدرات الذهنية والجسدية.
فِي المقابل ماذا وفرت الجهات المطالبة بالوفاء بالالتزامات من ضمانات لهذه الفئات، التي تتضاعف معاناتها يوما بعد يوم، رغم مجهودات الهيئات الهادفة إلى إيجاد طرق للتكافل والتضامن. محامون يعانون من ضغوطات مختلفة، مطالبون بتحمل دراسة الأبناء نظرا إلى عجز الدولة عن إصلاح قطاع التعليم المتردي، ومطالبون بمختلف الأداءات والمساعدات وتكوين المتمرنين والمساهمة في امتصاص البطالة والقيام بجميع الأدوار التي من المفروض أن تقوم بها الدولة المطالبة بأداء الضرائب. وإذا كانت الاقتطاعات تجرى من المنبع بالنسبة إلى الموظفين، فإنهم يستفيدون من الأجور وتعويضات الأقدمية والعطل السنوية، والأهم من ذلك التقاعدات المريحة والتغطية الصحية، وراحة البال والضمير، في الوقت الذي لا يستفيد المحامي الذي يبلغ من العمر عتيا من أي امتياز، وربما تقاعده قد لا يتعدى ألف درهم شهريا، بل إذا مرض أو ذهب في عطلة فإن مداخيله تتوقف تلقائيا، ويكون مضطرا أحيانا إلى تحمل مختلف أشكال المعاناة إلى أن توافيه المنية وهو مرتد بذلته السوداء! ماذا هيأت السياسات الحكومية للمهن الحرة حتى تعلن الحرب عليها؟.
في الوقت الذي يتقاضى المسؤولون الحكوميون مختلف المبالغ على المقاس، لا نرى في المهن الحرة سوى امتصاص البطالة وتخفيف وطأة الاحتقان وبقرة حلوب لما يقتضي الأمر ذلك. وإذا كانت هناك واجبات ففي المقابل هناك حقوق، فما هي هذه الحقوق يا ترى، علما أن المشرع نفسه لم يعدل لما اعتبر المريض غير مستهلك والمتقاضي مستهلكا؟، بل حتى فكرة التصالح والقيام بإحصاء الفئة المصرحة من غير المصرحة، ومعاينة أن حوالي ثمانين محاميا على الصعيد الوطني يؤدون وحدهم 25 مليار سنتيم لإدارة الضرائب، فهذا يعني أن البقية الباقية تعاني الأمرين من أجل مواجهة التكاليف وأداء مستحقات الأبناك الناتجة عن مختلف القروض، ومقترح منح إبراء شفوي فيه استخفاف بذكاء شريحة قانونية لا يقصد منها سوى ضخ الأموال في صناديق الدولة بدل تسوية وضعية المحامين والمهن الحرة تسوية جذرية، بدل أساليب التهديد والوعيد وممارسة الضغط، علما أنه إذا كان هذا الضغط النفسي هو مصير أغلب المحامين، والتوجس من غد ومن آفاق مجهولة المعالم والمخاطرة المتمثّلة في تحمل المسؤولية المهنية في ظروف مادية صعبة ومواجهة تكاليف مختلفة دون معرفة الآفاق المستقبلية، وكانت إدارة الضرائب تقوم بواجبها طبقا للقانون، فإن المواطن الخاضع لهذه الضريبة والملتزم بها من حقه أيضا أن يشترط معاملة ضريبية عادلة وجوا اجتماعيا مريحا وملائما، فلا يعقل أن نطالب هذه الشريحة الفاعلة اقتصاديا بأداء ثلث مدخولها للضرائب، وتتحمل في الوقت نفسه جميع التحملات التي تقع على عاتق الدولة بسبب اختلالات هذه الأخيرة؟ شريحة تعاني في صمت رهيب ومواجهة بتحملات ثقيلة وتجهل مستقبلا تتلاعب به رياح أزمات خانقة، شريحة تواجه الأزمات الحقوقية وتمارس الدبلوماسية الموازية وتستميت من أجل الدفاع عن الوحدة الترابية، وتناضل من أجل ضمان العيش الكريم للفئات المشتغلة معها، والأخرى تحت كفالتها، وهي الفئة المتوسطة التي تساهم في إنعاش مختلف المرافق بصبر وأناة، فَلِمَ لا يتم التفكير تشريعيا في حل مشاكل البذلة الصامدة المدافعة عن الحقوق والحريات وتمكينها من القيام بمهامها في ظل طمأنينة نسبية مع إيجاد صيغ وتشريع ضريبي يأخذ بعين الاعتبار خصوصية المهنة وإكراهاتها بدل ترك المنتسبين إليها عرضة للمعاناة اليومية ولا مبالاة جهة تطالب بالحقوق وتتجاهل لغة الالتزامات !