لا ترشقوا سيارات الإسعاف بالحجارة
بقلم الأستاذ : نور الدين الرياحي
إن كبار الكتاب والمفكرين والأدباء والسياسيين، استغلوا الأوقات العصيبة ليخرجوا إلى الوجود، إبداعات قل نظيرها في الحكم والأقوال والأفعال في أيام صعبة مثل أيام «كورونا» التي نعيشها، ولقد قال الرئيس الفرنسي مؤخرا بأن بلاده في حالة حرب، وقال ونستون تشرشل قبله للإنجليز: ((ليس لدي ما أعدكم به سوى الدم والمحن والعرق والدموع))، وقبله في سنة 1849 ،قال نفس العبارة، جاريبالدي في 2 يوليوز في روما بإيطاليا،
التي تشهد اليوم استنفارا لا مثيل له ضد وباء «كورونا»، بعد قرنين من الزمن لم ينفع معه تقدم ولا تقنيات ولا جيوش.. وكم يشبه يوم جاريبالدي في روما سنة 1849 يوم 15 مارس 2020 ،عندما لم يجد حكام إيطاليا
ما يهدونه لها إلا الموت والمحن وثوابيت الموتى في سيارات عسكرية تدفن دون جنازات ولا رهبان، والتي انطلقت منها صرخة صوت جميل لإيطالية ربما أجمل، تذكر أمريكا وفرنسا والإنجليز بعتاب شديد تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي يكاد يبكي من استمع إليها وهي تذكر شعوب أمريكا وأوروبا بمجد إيطاليا الضارب في جذور الحضارة الإنسانية..
كيف لا وصرختها معززة بشواهد تاريخية وحضارية من متحف اللوفر الذي يحتضن «لاجوكاندا» التي ربما دمعت عيناها لما استمعت لصرخة ابنة بلدتها وهي تلوم الفرنسيين والأمريكيين والإنجليز عن عدم نجدة شعبها،
ولو بقي الرسام الذي رسمها حيا، لرسم بريشته دمعة على اللوحة في متحف اللوفر، ولربما تكون مثل الدمعة التي هداها فيكتور هوغو على شكل قالب مذهب إلى سارة بيرنار وهو يحضر إحدى مسرحياتها إعجابا قائلا :((اسمحي سيدتي لفيكتور هوغو أن يهدي إليك هذه الدمعة المسكوبة ويخلدها لك كهدية)).
ولو عاشت سارة بيرنار اليوم لبكت هي الأخرى لما نزلت في محطة القطار بمدريد يوما وهي على كرسي متحرك، فإذا بالإسبان يخرجون في استقبالها بين المحطة والفندق ويرمون بمعاطفهم وأجمل لباسهم لتسير عليه عربة سارة بيرنار التي لو مرت اليوم على نفس الشارع في مدريد لذرفت هي الأخرى دمعة أكبر من دمعة هوجو وهي تنظر إلى شوارع مدريد خاوية على عروشها بسبب «كورونا» الملعون، ولربما لم تجد أحدا في استقبالها.
ولو بعث إبراهيم عليه السلام لبكى على الكعبة التي دعا الله يوما: ((ِ ربنا ليقيموا َسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ٍ عند بيتك المحرم إني أَفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم الصلاة فاجعل أيشكرون))، ولتعجب من خلوها من المصلين، ولتساءل فيما كان ذلك جزاء عن عدم شكر ذريته لربهم بعدما قرن دعاءه بضرورة الشكر له!
وشكره تعالى، يكون بالعمل الصالح الـذي أمر به الله، ونبذ الكراهية، واقتسام الماء والخيرات، والتواضع للبشر، لأن في التواضع إليهم تواضعا لـله والإيمان بأن الإسلام الحقيقي هو ثقافة التضامن وتطهير الأموال بصدقة تطهرهم وتزكيهم، وما امتلاك الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والنساء إلا شهوة من الشهوات الزائلة التي تزول بمجرد الانتهاء منها، والرجوع إلى أصل العمل الصالح هو أن إيماننا لا يكتمل إلا إذا أحببنا لغيرنا ما أحببنا لأنفسنا، وأن يكون هذا المعيار هو الذي يضعه
الحاكم أو القاضي أمامه وهو يبت في قضايا الناس.
وفي يوم من الأيام، ولا زال قضاة النيابة العامة الذين عملوا معي يذكرون ذلك، وقد كانت الدولة قد شق عليها عمليا إيجاد حل، ولربما لا زالت، المشكلة الاعتقال الاحتياطي، وطلب مني آنذاك الأستاذ الفقيه المشيشي العلمي وزير العدل، أمام الجميع في مكتبي بالدارالبيضاء، الوصفة السحرية التي وفقني الله فيها آنذاك وقضيت بها على الاعتقال الاحتياطي في أكبر محكمة في المغرب، وأطلعته على التقنيات التي ابتكرتها في وقت لم يظهر
فيه نظام المعلوميات بعد، وكان ينفذها آنذاك الوكيل العام الأستاذ أنيس والأستاذ الزنوري بمعية ثلة من كتاب الضبط المتمرسين بوسائل بسيطة وسجلات أبسط، منهم الأساتذة لمريبط والـوراث والإبراهيمي وأمين في
مكتب صغير، وطلب وزير العدل بأن تعمم طريقة تنظيم مصلحة الاعتقال يتبع الاحتياطي في الدار البيضاء على جميع محاكم المملكة.
(يتبع)