جريدة رقمية مغربية
متجددة على مدار الساعة
اشهار ANAPEC 120×600
اشهار ANAPEC 120×600

جانب من مذكرات الأستاذ نور الدين الرياحي

بقلم الأستاذ : نور الدين الرياحي

 

عيد مبارك سعيد..

أول أيام العيد تعودت أن أستفيق على همسات زوجتي برفق حفظها الله من أجل الاستفاقة باكرا نسبيا استعدادا لاستقبالات الأحباب و الأقارب و الاولاد و الحفدة و هم يلبسون اجمل ما عندهم و يستطلعون في وجوهنا متى نقدم لهم هدايا العيد ، و هي تعلم أنني اقضي ليالي رمضان سهرا و عبادة إلى الصباح و يكون من العسير جدا الرجوع إلى القواعد العادية للنوم في أول أيام عيد الفطر و قد قرأت على صفحات التواصل الاجتماعي ان هذا العيد قد يفقد هذه السنة لذته لضياع قريب أو ابتعاد احباب عن لمة العيد او اجتماع على مائدته، و السبب دائمآ هو هذا الوباء الذي حرم الإنسانية من عواطفها و بلغت سخرية القدر اختراع أدوات بلاستيكية لعناق حبيب او صديق .

و فتحت نافذة لكي ابدأ النهار كعادتي و ازلت الستار لارى حمامتين جميلتين على الشرفة لم أميز بين ذكرها و انثاها من شدة الجمال ، و تفاءلت خيرا بهذا العيد ، و لم ارد إكمال الفتح كي لا ازعج لحظات همسهما الجميل ، و تناجيهما على زهر الأشجار صباحا، و تذكرت لماذا غنى شوقي :

حمامة الايك من بالشدو فارقها، و قد سبق لي في مذكرات سابقة أن أشرت إلى قصة الاغنية التي ألهمت ام كلثوم أمير الشعراء أحمد شوقي في مزرعته المسماة كرمة ابن هانئ ( نسبة ليس ابن هانئ الاندلسي و انما ابن هانئ الملقب بابي نواس ) عندما كانت تغني له و هو يستضيف شعراء و أكابر ضيوفه و بلغت به النشوة أن أهدى ام كلثوم كأسا من الخمر فلم تستطع رده على أمير الشعراء و اخذته منه و اوهمته بأنها وضعته على شفتيها و استمرت في الغناء ، و الشاعر هو ذلك الإنسان الذي يلتفت إلى الأمور التي لا يلتفت إليها الشخص العادي في الحياة و خصوصا في المرأة ، و هي الأشياء الصغيرة و الدقيقة جدا ، لذلك نجد المرأة الحقيقية بمجرد ما ينتبه الرجل إلى مسألة دقيقة لا تعرفها إلا هي وحدها دون غيرها في نفسها و لا يعرفها الرجال العاديون فيها رغم قربهم منها الا و تسقط في حب المكتشف لذلك كثرت معجبات الفنانين و الشعراء و الأدباء دون غيرهم مدى التاريخ لانهم يتوفرون على ملكة ايقاظ هذه الخصوصيات في نفس الأنثى، و قد أفادت إحدى الدراسات الحديثة النفسانية بأن ذلك يسري على الحيوانات أيضا.

فكان طبيعيا أن تغرم ام كلثوم في قصيدة سلوا كؤوس الطلى التي تساءل فيها أمير الشعراء هل ارتشفت شفاه شادية العرب كأسه الذي اهداها اياه ام انها اوهمته بذلك ، و هي جزئية لم ينتبه إليها إلا الشاعر وحده و زاد في الطين بلة بأن أحمد شوقي بوزنه و مكانته لم ينم إلا بعد نظم القصيدة و امر سائقه مع الفجر إلى ايصاله إلى بيت ام كلثوم و طلب من حارس البيت أن يستأذن صاحبته لكن الحارس المسكين لم يعرف صاحب الطربوش و قال له بأن الست عندما تدخل إلى غرفة نومها لا يمكن ايقاضها من طرف أي كان.

و في الصباح بعدما سلم لها الغلاف و اعطاها أوصاف صاحبه كادت تضرب الحارس من شدة الغضب عن عدم ايقاضها و قالت لو علمت من منعته من الدخول انه أمير الشعراء الذي لا يذهب في مثل ذلك الوقت إلا استجابة للملوك !

و أخذت الظرف و طلبت من رياض السنباطي أن يجعله اغنية في سهرة الخميس و استدعت أمير الشعراء و لم تشعره بالمفاجأة حتى استمع للقصيدة التي ظن انها ستبقى سرا بينه و بينها فإذا بها تغنيها على مسمع من العالم بأسره !

و قد استمعت إلى هذه الرواية في برنامج شهير و كنا طلبة كانت تذيعه اذاعة ب.ب.س. اللندنية في زمن لم تكن فيه الانترنيت و لا قنوات التلفزة كانوا يسمونه قول على قول كان يعده الأديب الشهير الاستاذ الكرمي .
فذهبت بعد الاستماع اليه مباشرة إلى صاحب الاسطوانات الشهير في الدار البيضاء جلال بساحة فيردان و طلبت منه اسطوانة سلو كؤوس الطلى .
فنظر إلى الشاب ذو ستة عشر سنة آنذاك و كأنه يقول لي و هل تفهمها أولا؟

و لما ألححت عليه قال لي بأنه فقط سوف يعيد تسجيلها لان اسطوانتها نفذت منذ زمان من سوق الاسطوانات و منذ ذلك التاريخ بدأت قصتي مع حمامة الايك التي ابصرتها في هذا الصباح الجميل .

فلم أرد أن ازعج زوج الحمام بحركة تعكر عليه صفو المناجاة يوم عيد تاريخي تخلى لهم لأول مرة الإنسان على أماكن المناجاة الطبيعية تحت وطأة كرونا ليستمتعا بلحظات الحب الجميلة في غيبة هذا الإنسان الذي حرمهم بحكم تقدمه التكنولوجي و هدم الطبيعة مقابل راحته و احداث ثقوب الازون و التلوث الطبيعي ردحا من الزمان كان ضروريا لفيروس صغير أن ينبهه إلى ضعفه و يرجع إلى حقيقة تكبره الغير المبرر و يحكم عليه بقرار نهائي غير قابل لاي طريق من طرق النقض العادية او الغير العادية للرجوع إلى مكانه الحقيقي و يترك الطبيعة و الحياة الجميلة و لو مؤقتا لمن يعرف المناجاة و الكلمة الجميلة و الأغنية الرقيقة و الصوت الجميل و الغصن المزهر و الشمس المشرقة للحيوان و الطيور التي اسمع صوت غنائها مزهوة بهذا النصر الجديد على الإنسان و ممعنة في أن تشفي غليل صدورها و هي آمنة منه على لن يكدر صفو لقائها بحركة او صيد في أيام حرم .

و عوض أن أسمع صوت حفدتي الصغار كعادتي و هم يقتحمون حجرة نومي كعادتهم و ينتزعون حيازتها عن طريق القوة سلاحهم الفتاك الذي هو ابتساماتهم الجميلة و شعارهم : بابي .

و علمت جيدا بانني سوق اقضي نهار العيد وحدي مع رفيقة العمر التي لم تترك حفظها الله لحظة من ثلاثة أشهر كاملة لتخدمني بيديها الرقيقتين اللتان لم تعتد مخاطر المطبخ لتهدي لي ما لذ و طاب و تحرص على تلبية عاداتي الصعبة في حجر دام ثلاثة أشهر، طلبت مني البارحة أن اعطيها شهادة لما قامت به من عمل جليل هو خدمة رفيق عمرها بيدها .

و لم أجد ما اهديها و قد أثر في منظر كاد يبكيني في بداية ايام الحجر الحزينة لما اخبرتني بأنها قرأت في إحدى المقالات على الانترنيت بتوصية النساء بنزع حلي الأيدي مخافة انتقال العدوى بواسطته و قالت لي :
نور الدين هل هو الاقتراب من الموت ، أن المرأة لا تنزع و لا ينزعون حلي يدها إلا في لحظات الموت واغرورقت عيناها من شدة الألم على النصيحة الطبية.
لذلك حتى اهداء الحلي إليها لم يعد له معنى في زمن كرونا .

لكن أهديت لها ما جاء على لسان أندري موروا الكاتب الفرنسي الشهير و أحد ملوك اسلوب الكتابة الرومانسي في رائعته ” طقوس climat و قد اهداني اياها اخي عثمان رحمه الله و انا في الثانوي و قرأتها عدة مرات ، و حكيت القصة لزوجتي و بناتي لان اجمل ما فيها هو فكرة ” La cristallisation de l amour ” و هي أن الحب مثله مثل حلي المرأة و المعادن الثمينة ينبغي أن تكون هناك أحداث لتحكه كي يلمع .

و قد فسرت لزوجتي كي ارفه عنها بأن أندري موروا في فكرته عندما يتكلم عن الفراق كمحك للحب فإن اللقاء كذلك محك له ، و انا البقاء مع الحبيب ليل نهار لمدة طويلة كذلك محك للحب الحقيقي فيلمع من جديد و يشرق كما تشرق الشمس .
و اعجبتها الهدية الرومانسية في زمن الكرونا و المرأة تحب أن من يتقاسم معها عبارات الرومانسية في اللحظات العصيبة .

و تذكرت مقالا في المذكرات الهمتني اياه منذ سنتين سهرة مع الموسيقار و الصديق الاستاذ عبد الوهاب الدكالي و تقاسمته مع قرائي و عنونته عندما تشرق الشمس لارنست هيمنجواي، و كتبت في تعليقي بأن فكرة هذا المؤلف التي نال بها همنجواي جائزة نوبل هي استطاعته أن يبرز القصة على شكل الحياة نفسها ، التي تستمر رغم الحروب و مآسيها التي عاشتها الإنسانية بعد الحرب الكونية ، و بأن حب الحياة يستمر عندما تتكلم هذه الحياة على نفسها لذلك آثرت أن أهدي هذه السطور إلى كل قرائي و قارءاتي لاعلن لهم بأن الحياة سوف تستمر و بأن الحرمان من حب كل ما هو جميل ما هو إلا مؤقت و بأن القرب الشديد كالفراق الشديد هو محك للحب و بأن امل اللقاء و البهجة آت بإذن الله ، و بأنه لابد أن نبتسم مع ايليا ابو الماضي للحياة و نتفاءل بلقائها من جديد ، صحيح انها لن تكون كما كانت قبل من حيث مادياتها و ظروفها من الناحية الاقتصادية التي ينظر إليها الاقتصاديون بتشاؤم كبير و لكنها سوف تكون بطقوس أندري موروا و شمس أرنست هيمنجواي و حمامة ايك أحمد شوقي و ابتسامة اليا ابو الماضي .

مذكرات نور الدين الرياحي
24 ماي 2020

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.