الأستاذ نور الدين الرياحي.. قصة كفاح أشهر قاضي في عهد الراحل الحسن الثاني وأسرار يكشف عنها حول ملف القرن “إعدام ثابت”
متابعة
في حوار أجرته الزميلة هسبريس مع الأستاذ نور الدين الرياحي المحامي الشهير بهيئة الدار البيضاء، كشف عن مساره في رحاب قصر العدالة، وكيف استطاع الرجل أن يبصم اسمه حتى أصبح من أشهر قضاة المملكة في عهد الراحل الملك الحسن الثاني. وهذا نص الحوار :
بداية، كيف جاء اختياركم لولوج سلك القضاء؟
لقد كان شكسبير يقول: “وحده الحظ يمكنه حمل سفينة بلا ربان إلى الشاطئ الأمين”..كذلك أي مسار في الحياة أو اختيار تحكمه عدة عوامل وليس عاملا واحدا، ومخطئ من يظن أن الحظ وحده هو الذي يوصل السفينة.
اختياري لسلك القضاء جاء بعد تعذر إكمال دراستي، عقب رجوعي من جامعة ستراسبورغ التي كنت أنوي تهييء دكتوراه فيها بعدما قبل ملفي سنة 1977 ومازلت مسجلا فيها إلى حد الآن بحكم أن مغادرتي بها كانت بسبب طارئ للرجوع إلى المغرب في خريف 1978 .
وهنا شاهد يوثق بشهادته هو النقيب الأستاذ محمد الشهبي الذي اقترح عليّ وأنا أزور مكتب الأستاذ محمد التبر الذي كان ينوب عنا كورثة في قضية عائلية في سبعينيات القرن الماضي لما كنت طالبا، بينما الشهبي ينوب عن بعض أعمامي، وهو يهم آنذاك بمغادرته إلى مكتبه الجديد الذي لا يبعد إلا عدة أمتار في زنقة الطاهر السبتي عن مكتب (ذ) التبر، أن أسجل نفسي بهيئة الدار البيضاء حيث كانت تكفي رسالة من مكتب التمرين للموافقة على الطلب. كان عرضا مغريا آنذاك لأن مكتب (ذ) محمد التبر مدرسة كبيرة في عالم المحاماة وليس بالسهل أن يقبل فيها أيا كان، كما أن خريجي هذه المدرسة من النقيب محمد الشهبي والأساتذة حميد الأندلسي، خليل مبارك، حاتمي وغيرهم من الزملاء، أسماء كبيرة في عالم المحاماة.
إلا أنني أخبرته بكوني، وتفاديا لإضاعة الوقت بعد وضع ملفي بالخدمة المدنية، التي كان يتعين علي قضاء سنتين فيها، فضلت اجتياز مباراة القضاء التي لأول مرة تنظم فيها مباراة استثنائية لظرف استثنائي، وبأن ممارسة مهنة المحاماة تستدعي مني ألا أسجل إلا بعد قضاء سنتين في الخدمة المدنية، بينما ولوجي سلك القضاء يعفيني من ذلك.
وأحيطكم علما هنا أن المرحوم المعطي بوعبيد، الوزير الأول ووزير العدل آنذاك، بعدما دشن عدة محاكم في مناطق كانت تشكو من بعد العدالة عن المواطنين في إطار المنجزات الحكومية التي كان ينوي إنجازها، نظمت وزارته مباراة في يونيو 1978، وهي لم تكن مناسبة لفوجنا في الكلية، لأن النتائج لا تعطى إلا في آخر يونيو، وبذلك أقبل عليها الزملاء المتخرجون غالبيتهم سنة 1975 و1976 بعد قضائهم سنتي الخدمة المدنية.
ووقع أن لم يحصل ما سمي الفوج الرابع إلا على 150 مقعدا، وبقيت 50 أخرى يجب أن تكون موضوع التباري، لأن العدد المطلوب في المباراة هو 200. فاضطرت الوزارة إلى تنظيم مباراة استثنائية لخمسين قاضيا آخرين قبل نهاية دجنبر 1978 للاحتفاظ بالمناصب المالية، وهو ما قررته باستعجال آنذاك، وحصلت لحسن الحظ على الدرجة الثانية في المباراة، وهو التفسير الذي شرحه لي الأستاذ المرحوم النقيب المعطي بوعبيد 16 سنة بعدما أصبح زميلا من جديد ورئيسا لحزب وصديقا عزيزا علي.
وكانت فرصة لي لا تقدر بثمن في اختصار المسار الإداري، إذ زيادة على توفير سنتي الخدمة المدنية، وكذلك اختزال التكوين في المعهد القضائي في ستة أشهر بدل سنتين بحكم مواكبة وزارة العدل بتغيير القانون الأساسي لرجال القضاء، كنت قاضيا ممارسا في النيابة العامة صيف 1979 إلى جانب قضاة يسبقونني بعدة سنوات من الممارسة، إذ لم اقل عشرات السنين.
وهذا هو سبب تساؤل البعض عن ولوجي القضاء وسني لا يتجاوز 21 سنة، إذ كانت تفضحني آنذاك معالم وجهي الشابة. ومن جملة الطرائف أن الأستاذ عز الدين السقاط، الذي كان مديرا ومفتشا عاما بوزارة العدل رحمه الله، وكان يدرسنا رفقة الأستاذ محمد ميكو مادة المسطرة المدنية وطرق التبليغ، في أول درس سألني عن سني ضاحكا..وأذكر أنه بعد 14 سنة من التاريخ المذكور التقيت به كمدرس سنة 1993 لمادة المسطرة الجنائية والمرافعة في المعهد القضائي، لما أمر جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني بأن أكون مدرسا لفنون الترافع والقانون الجنائي وسني بالكاد 35 سنة، حيث قال: ألم تكفيك مزاحمة أقرانك في المحاكم الذين يسبقونك بعشرات السنين في الممارسة، وجئت لتزاحم فقهاء القانون والمديرين في التدريس؟.
وفعلا هي مزاحمة علمية لم أجن منها الإعجاب والتشجيع فقط، والنجاح، ولكن كذلك نتائج غيرة وحسد مهني كنت ومازلت أترفع عنها في كثير من الأحيان، فالشباب هو زمن دراسة الحكمة، والشيخوخة زمن ممارستها كما يقول جان جاك روسو.
-الإنسان بطبعه يكون متأثرا في مساره بشخصية ما، أنتم داخل رحاب العدالة من كان قدوتكم؟
لقد قال توماس كارليل: قل لي من هو الرجل الذي تحترمه؟ أقول لك: أي الرجال أنت!..طبيعة مهنة القاضي أو المحامي أو أي مسؤول تلاقيه بعدة رجال ونساء في حياته، وبالتالي لا يتأثر برجل واحد أو بامرأة واحدة، وإنما بسلوك ومواقف معينة وكثيرة ومختلفة، وبدونها لا يمكن أن نحكم على سلوك أي إنسان إلا بالرجوع ليس إلى موقف واحد وإنما إلى مواقف مختلفة تجبرك على الاحترام وبالتالي القدوة .
تأثرت بمواقف جلبت الاحترام لأصحابها قضاة ووزراء ومستشارين وأدباء ومفكرين، محامين، صحافيين، أعوان، كتاب وفلاحين ورجال أعمال، ولم أفرق في كتاباتي ومواقفي بين أعلاهم درجة أو أقلهم، لأن المهم في التكوين الذي كنت ومازلت أطمح له هو الإنسان بغض النظر عن ماله أو جاهه أو ثقافته، ومازلت آخذ الحكمة من أعرابي بسيط في قرية نائية كما آخذها من مفكر أو سياسي أو قاض كبير، فالإنسان كما يقول لا مارتين “إله بتفكيره. C est un dieu par sa pensée”.
أعترف بأنني قبل أن أكون قاضيا أو محاميا أو مدرسا فلاح وابن فلاح وحفيد فلاح. أول من كنت معجبا به هو جدي الحاج قدور الرياحي لحريزي، وازداد إعجابي به لما أدركت عبر وثائق عدلية ترجع إلى سنة 1940 أنه وهب لفائدة جامعة القرويين ومسجد الأحباس بالدار البيضاء ومكة المكرمة ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ثلث تركته التي قومت بأكثر من ألفي هكتار آنذاك. (وقد فتحت لهذه الوثائق صفحة باسمه وصورته لا للتباهي أو التبجح في فايسبوك وإنما لإعطاء القدوة بالسلف الصالح للمغاربة، ونشرت أصول الوثائق في الصفحة المذكورة). وهذا الإعجاب ازداد بأنه رحمة الله عليه كان قد حرص على تكوين والدي في مجال العلوم الشرعية في الزاوية الناصرية، وهو ما كان المرحوم الطيب الناصري، النقيب ووزير العدل السابق والصديق، يذكرني به كلما اتخذت موقفا قضائيا شرسا لما كنت أمثل القضاة وناطقا رسميا لهم أمام المكاتب المركزية للجمعيات المهنية أو أمام القضاة والمحامين.
كما أجيز والدي من جامعة القرويين قبل أن يسند إليه جدي من بين أبنائه تمثيليته أمام المحاكم والمحافظة العقارية ومختلف الوزارات لتدبير ثروته آنذاك، وكأنه استشف فيه قابليته لممارسة العلوم الشرعية. ومكنتني كذلك هذه التجربة وأنا قيد الدراسة أن أطلع على خزانة الأسرة، سواء تلك التي تعود لأجدادي من والدتي رحمهما الله، أو خزانة والدتي وخالتي وعمة والدتي التي تنبأت وأنا طفل صغير بممارسة مهنة القضاء عندما نصحت والدتي بضرورة المحافظة على خزانة والدها لتبقى مرجعا لي عندما أكبر، ولم يخب حدسها رحمة الله عليها.
وكنت رغم صغر سني أمكث كثيرا في مكتبة الكتب الصفراء المزينة كذلك بكتب ابن خالتي المرحوم عثمان القدميري، الذي كان طالبا في كلية الحقوق في ستينيات القرن الماضي، وكان متخرجا من معاهد فرنسية الثقافة، وكنت أقرأ للامارتين وهيجو و شكسبير وكورناي وآخرين.
ومكنني هذا الاطلاع المبكر من أن أجد قدوتي في العلماء والكتاب والأدباء، ومن بينهم كبار القضاة والمفكرين والأدباء والشعراء، وقرأت لهم وكتبت عنهم ومازلت، الحمد لله عليهم.
وكان لي الشرف وأنا قاض مبتدئ أن أكتب أول سيرة عن قاضٍ نزيه، رئيس النيابة العامة بالدار البيضاء، في أربعينيته، كان له الفضل في تكويننا، عنونته في ذكرى المكي نوشريف، ولقي إقبالا كبيرا سنة 1989 وخصصت مداخيله لإكمال أداء بقعة أرضية لم يجد ورثته في حسابه ما يكملون بها أداء ثمنها لمسؤول قضى ما يزيد عن خمسين سنة في خدمة الدولة في أعلى المناصب القضائية، وكان إلهاما لي في سن مبكر أن أكتب هذه السيرة لأول مرة في المغرب عن قاض.
ووجدت نفسي بعد هذا التكوين أحاول أن أجد المثال في من سبقني من القضاة، وكانت رئاسة المحكمة عندئذ متكونة من فضيلة فقيه يسمى الأستاذ امحمد بناني، تكون على يديه نخبة من القضاة الأجلاء، منهم الأساتذة عبد العزيز توفيق، اكرام الرئيس السابق بمحكمة الاستئناف، الفيلالي، بصير، عبد اللطيف مشبال عبد اللطيف وآخرين؛ فيما وجدت النيابة العامة برئاسة قاض يشهد له الجميع بنزاهته الفكرية وقوة شخصيته وانضباطه، وهو المرحوم المكي نوشريف الذي جاء من وجدة فمكناس فالدار البيضاء ليخلف وكيل الملك المرحوم بوعزة يكن، الذي تفرغ لعالم الأعمال وترأس حزبا في أواخر حياته.
-كُنتُم أول وكيل عام يعين وعمره لا يتجاوز 33 عاما، كيف كان إحساسكم بهذه المسؤولية الجديدة في وقت كانت البلاد تشهد مخاضا؟
فعلا، كان ذلك في المحاكمة الشهيرة المعروفة بقضية ثابت، أو كما سميتموها أنتم الصحافيون “محاكمة القرن”. ورغم كوني درست واجب التحفظ في المعهد العالي للقضاء وكذلك للمحامين فإنني أعتبر نفسي رغم مغادرة القضاء وممارسة مهنة المحاماة التي هي مهنة الحرية، ورغم تقادم القضايا التي كانت تسميني الصحافة عن حق أو باطل بطلها، فإنني مازلت متمسكا بواجب التحفظ في جميع الأعمال التي كان لي شرف خدمة وطني وملكي بواسطتها، لذلك رغم دق بابي منذ مدة من طرف الصحافة الوطنية والدولية كنت دائما ومازلت أتحفظ إلا في تصحيح بعض الحقائق العلنية التي من واجب التاريخ والأجيال المعاصرة ومن ضللته أكاذيب بحولها أن يعرف الحقيقة.
تصور أن بعض المنابر تشكك حتى في إعدام المتهم في حين أنني من وقع محضر الإعدام الذي تم بحضوري وحضور مجموعة من المسؤولين القضائيين والعسكريين والأمنيين والمحامين، منهم من مازال على قيد الحياة ومنهم من مات!.
أليس من واجب الحقيقة أن نصحح في إطار واجب التحفظ المعلومة، لأنه لو قدر الله ومتنا جميعا وتمت دراسة القضية من جديد لتناسى الرأي العام بلاغ وزارة العدل على شاشة التلفزة والإذاعة سنة 1993 لتنص على آخر إعدام وقع تنفيذه في المملكة.. مع ما تبعه من إجراءات قانونية وتعيينات في مناصب عليا وبدء المغرب انفتاحا في مجالات متعددة تصون حرية وأخلاق المواطنين وترجع للقضاء هيبته وتغيير صورة الحريات في البلاد.
وهي أمور لم يدركها إلا القليل، لأنهم فقط نظروا إلى قساوة الحكم ولم ينظروا إلى أسبابه ومسبباته والنتائج التي تمخض عنها عندما أمر جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني أمام الإذاعة والتلفزة، وهو يعين المدير العام للأمن الوطني السيد أحمد الميداوي: ابحث على ولاد الناس لإسناد المناصب إليهم في الأمن.
وهي إشارة تلقفتها جميع الإدارات والوزارات، إذ شهد المغرب في أواسط التسعينيات تعيين مجموعة من الرجال والنساء في مناصب عامة كان المعيار الوحيد فيها هو الكفاءة والأخلاق والتربية، ما انعكس على البلاد انعكاسا إيجابيا مازلنا إلى يومنا هذا نتمتع جميعا به، لأنك تجد في كل مرفق عام رجالا ونساء يسهرون على خدمة المواطن ويرفعون الظلم عنه.
عينني صاحب الجلالة آنذاك بانتداب وليس بقرار للمجلس الأعلى للقضاء يوم تنفيذ حكم الإعدام، وأسند إليّ جلالته رئاسة النيابة العامة في الدار البيضاء في ظرف خاص جدا سياسيا وقضائيا، ولعل الكلمة والاستقبال الذي خصني به وزير العدل مولاي مصطفى بلعربي العلوي، الذي تربينا في مدرسته أكثر من 12 سنة وهو يبلغني عطف ورضا جلالته ويسلمني قرار التعيين والأمر المولوي السامي، مازال يذكره كبار المسؤولين والقضاة الذين كانوا حاضرين بمكتب الوزير.
وقد وجدت في جميع الوزارات والمسؤولين والإدارات آنذاك، سواء على الصعيد المركزي أو المحلي، تعاونا من أجل إصلاح مؤسسة النيابة العامة بمعية قضاة ومسؤولين استشعروا المهمة التي كلفني بها صاحب الجلالة، ومن جملتها جعل النيابة العامة هي عين جلالته وإبلاغه ما يمكن أن يهدد أي حرية أو ظلم لأي مواطن من رعاياه، والقضاء على ظاهرة الاعتقال الاحتياطي التي كانت تقض مضجع الكثير والحرص على توفير ضمانات المحاكمة العادلة.
ويكفيني فخرا اليوم أن غالبية القضاة الذين عملوا معي هم من يشكلون رؤساء النيابات العامة في المغرب، ولله الحمد ويكفي أن ما نراه اليوم في استقلال النيابة العامة الدستوري، والذي لم نكن نتوفر على نصه وناضلنا من أجله في الثمانينيات والتسعينيات، أصبح واقعا معاشا وإن كنا قد استبقنا ذلك في وقت عصيب باجتهادات في تفسير النصوص وإجراءات شجاعة مكنت من تخرج رعيل من قضاة النيابة العامة من مدرسة أصيلة تشكل استمرارا للمبادئ وحرصا على الحرية، وهو نقاش فقهي وقانوني وعملي مازال التاريخ سوف يحكم عليه.
يتبع..