الأستاذ الرياحي يكشف كيف كان الملك الراحل الحسن الثاني يتابع محاكمة ثابت عن طريق الكاميرات
متابعة
كشف الأستاذ المحامي نور الدين الرياحي والقاضي السابق في حوار أجرته معه الزميلة “هسبريس”، كيف كان الراحل الحسن الثاني يتابع محاكمة الكوميسير الحاج ثابت بشكل مباشر، وكيف تبناه وزير العدل آنذاك مولاي العربي العلوي، بعدما توصل الأخير بتهنئة ملكية بسبب ما قام به الرياحي في هذا الملف.
كان الراحل الحسن الثاني يتابع هذه المحاكمة عن بعد عن طريق كاميرات، هل يمكن أن تحكوا لنا عن تجربة “المحاكمة عن بعد” هذه؟
فعلا كانت محاكمة الكوميسير ثابت أول محاكمة في تاريخ المغرب تتابع عن بعد من طرف جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني ومن طرف وزارة العدل. ولم يكن سرا تنصيب كاميرتين طوال أزيد من شهر في قاعة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالبيضاء، كما أنها كانت مجهزة بتقنيات جد متطورة لنقل المرافعات، بحيث كانت أي همسة تسمع، إلى درجة أن نبهنا السادة المترافعين إلى انتقاء العبارات والجمل حفاظا على قدسية ومقام من يتابع مرافعاتنا، وفعلا كانت المرافعات رغم شدتها وشراستها في مستوى كبير من الترافع، كما كان هناك مكتب يسهر عليه قاض كبير مختص في نقل جزئيات المرافعة إلى الوزير شخصيا.
وكانت أول محاكمة يجري تتبعها عن بعد، وكل ذلك كان يدخل في مراقبة توافر عناصر المحاكمة العادلة من طرف أعلى سلطة في البلاد، نظرا لما تبع هذه المحاكمة طبعا من تداعيات لدى الرأي العام الوطني والدولي، إلى درجة تخصيص فقرات من الإذاعات الأوروبية والصحافة الأمريكية جزءا من مرافعاتها وأحكامها في زمن لم تكن الأنترنيت خرجت للوجود. كما خصصت قصائد شعرية افتتحت بمرافعة النيابة العامة على غرار ما نشرته جريدة الشرق الأوسط اللندنية للشاعر غسان، الذي افتتح قصيدته المنشورة التي مازلت احتفظ بها: “لو كانت عقوبة أكثر من الإعدام لطالبت بها النيابة العامة”.
وطبعا كان لا بد لقضية كهذه من مرافعة في مستوى القضاء المغربي الشامخ، وحاولت حينها أن أكون في مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقي وأنا شاب مبتدئ في القضاء مازلت في طور التعلم والتجربة، خصوصا أن مرافعة كهذه يجب أن تكون ارتجالية وليست مقروءة، وهو ما يتطلب إلماما بفنية الترافع وملكة في تفسير النصوص وفصاحة عفوية في الإلقاء وقوة في الإقناع ومبارزة قانونية مع محامين كبار يتقدمهم القيدوم الأستاذ محمد التبر و(ذ) معاش عبد الواحد و(ذ) عفريت بناني، و(ذ) الطيب عمر واللتقيب السملالي والأستاذة المرحومة والزميلة آسية الوديع، التي كانت تمثل جمعيات نسائية رفقة الأستاذة السعدية وضاح، وغيرهم من الزملاء والزميلات، ويحضرها المئات من المحامين والنقباء والصحافيين والعسكريين والأمنيين وحتى القضاة والقاضيات الذين كانوا يستمعون إلى المرافعات من وراء الستار.
خلال هذه المحاكمة، خلقتم الجدل عند افتتاحكم كنيابة عامة مرافعتكم بالقول: “باسم جلالة الملك”، لما أقدمتم على هذا؟
يعلم كثير من المختصين في مجال النيابة العامة أن هناك قاعدة فقهية تأصل عملها القانوني، وقد فسرت ذلك في مؤلفي “الوسيط في قضاء النيابة العامة” تقول: القلم عبد واللسان حر La plume est serve la langue est libre.
مؤدى ذلك أن ممثل النيابة العامة ملزم بتنفيذ تعليمات رؤسائه، لكنه في مرافعته حر في إبداء قناعته، أسوة بالقاضي الجالس غير المطالب بتبرير اقتناعه الصميم إلا من حيث القانون، وهو نوع من ضمان المحاكمة العادلة المرتبطة باقتناع القاضي الوجداني لما يمليه ضميره عليه، خصوصا أن النظام القانوني المغربي جعل من أعضاء النيابة العامة قضاة منتمين إلى السلك القضائي، لا فرق بينهم وبين زملائهم الجالسين.
لذلك يبقى الأمر مرتبطا بشخصية النائب العام وجرأته وشجاعته وكفاءته. وعندما افتتحت وأقول افتتحت وليس ترافعت باسم جلالة الملك، لأنه من القواعد القانونية المعروفة أن الأحكام وحدها التي تصدر باسم جلالة الملك، فأنا لم أقل بأن مرافعتي صدرت باسم جلالته وإنما افتتحت، وقد فسرت واجتهدت ورجعت إلى تاريخ النيابة العامة وخروجها إلى الوجود وبررت من الناحية القانونية والموضوعية ما فيه كفاية .
وأيد المجلس الأعلى، محكمة النقض حاليا، الذي يسهر على التطبيق السليم للقانون، وجهة نظري ورفض طلب النقض الذي تقدم به المحامون في هذه النقطة بالضبط، وأصبح تبعا لذلك اجتهادا قانونيا فريدا في تاريخ النيابة العامة، مزكى بالسلامة القانونية التي أقرها المجلس الأعلى في قراره النهائي الذي اكتسب قوة الشيء المقضي به سنة 1993.
كما أكده كذلك قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء برئاسة القاضي النزيه الأستاذ حسن الطلفي، رئيس غرفة الجنايات آنذاك، التي أثير أمامها الدفع القانوني لأول مرة. وعلى كل حال، ما يفتقر إليه القضاء هو الاجتهاد، فإذا اجتهد القاضي وأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد. ولعل الله سبحانه وتعالى كتب لنا الأجرين عندما ألهمنا الاجتهاد وزكاه وأبرمه قضاة محكمة النقض آنذاك .
أما بخصوص الدوافع فهي تدخل في إطار واجب التحفظ الذي يمنعني من التصريح بعدة أمور ربما أصبحت اليوم متجاوزة.
كانت الصحافة تثير قلق السلطات في التسعينيات، وخلال محاكمة “القرن” التي كانت سرية كيف تعاملتم مع الصحافيين في ما يهم الحصول على المعلومة؟
فعلا صحافة الستينيات ليست كصحافة السبعينيات أو الثمانينيات أو التسعينيات وهكذا دواليك، فهي ليست إلا وليدة البيئة وصورة العصر ومرآة تنعكس على صفحتها بدوات المجتمع ونزواته، كما قال محمد تيمور، وهي كما قال فرانسوا ميتران مساوئ حريتها أفضل بكثير من غيابها.
لذلك فهي دائما متأثرة بالأجواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى القضائية والفنية، وهي ضرورية إذا كانت موضوعية، ولا يمكن أن نتصور ضرورتها للتنمية.
دعني أوضح هنا أن من جملة المغالطات أن محاكمة الكوميسير ثابت كانت سرية، والحال أنها لم تكن كذلك، فقد كانت علنية، إلا عندما طالبت النيابة العامة بجعلها سرية في الجانب المتعلق بعرض وسائل الإثبات، وهي كما تعلمون 118 كاسيت بورنو فيديو يتقزز الإنسان العادي من مشاهدتها، كما أنها تحمل صورا لضحايا نساء ورجال متهمين ليس لأي أحد الحق في الكشف عن عورتهم أمام العموم في جلسة علنية.
لذلك طالبت النيابة العامة باقتصار مشاهدة وسائل الإثبات على المحامين النائبين عن المتهمين وهيئة المحكمة دون غيرهم، ضمانا لحقوق الدفاع والمتهمين. ومع ذلك أحيي بعض المحاميين والمحاميات الذين رغم استثنائهم في قرار المحكمة استأذنوها في عدم المشاهدة واعتبروا أن ذلك لا يمس حقوقهم. كما أنه بمجرد عرض وسائل الإثبات والمشاهد رجعت الجلسة علنية متوفرة على جميع الضمانات.
واستمرت النيابة العامة في الدفاع عن حق الضحايا اللواتي تجاوز عددهن خمسمائة امرأة حضرت بعضهن كشاهدات، ودافعت عن الحق في حمايتهن، وكذلك في عدم ذكر أسمائهن، لأن من شأن كل ذلك أن يؤثر على سمعتهن، خصوصا أن الكثيرات منهن أصبحن متزوجات ولديهن أطفال. لذلك كان قرار النيابة العامة صائبا، بل إنني أذكر بأن طلبي ساندته أسرة الدفاع لما علمت بمراميه الحافظة لحقوق الضحايا، وهي نقطة قانونية رأت فيها محكمة النقض أنه لا تثريب على قضاة الموضوع في الاستجابة لطلبات النيابة العامة لسرية الجلسات ما دام الغرض من ذلك حماية أعراض وشرف الضحايا، ولا خرق لمبادئ المحاكمة العادلة في السرية الجزئية لمحاكمة من ذلكم القبيل.
كيف كانت علاقتك كقاض كلّف بملفات كبرى بالصحافة الوطنية والدولية؟
بخصوص علاقتي مع الصحافة الوطنية والدولية فهي قصة قديمة ابتدأت منذ أربعين سنة تقريبا، كان المشهد الصحافي مغايرا عما عليه اليوم، ولا أعلم لماذا سمتني القاضي المعرض الأكثر للأضواء الصحفية.. وقد سئلت من عدة صحافيين وصحافيات شباب عن سبب ذلك، والغريب أنني كنت اصطدم بهذا النعت حتى خارج المغرب.. ولا أدري لماذا ألصقت بي الصحافة هذا الوصف؟ هل لطبيعة القضايا الاستثنائية التي ترافعت فيها؟ أم للقرارات الاجتهادية التي مارست بها عملي القضائي؟ أم الندوات الصحافية التي أمرت أن أقوم بها في إطار عملي القضائي؟.
وأظن أن ما لا يعلمه الكثيرون أنني صديق قديم لعدد من الصحافيين، وأنه كان لي شرف المساهمة في الانفتاح على العمل الصحافي ثلاثين سنة قبل دستور 2011 الذي أعطى للقضاة حرية التعبير مع احترام واجب التحفظ، وهو خيط رفيع جدا من شأنه أن يؤدي إلى عزل القاضي كمخالفة وإجراء تأديبي. ولعل ما وقع لعدة قضاة أكبر دليل على قطع هذا الخيط بسبب تصريحات لم يحترم فيها واجب التحفظ، ما أدى بالمشرع إلى تنظيمها دستوريا، ومن خلال القوانين الأساسية للقضاة بعد تغول الأنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا اليومية.
في بداية الثمانينيات، لعل كثيرين من جيلي يتذكر قضية النصب وخيانة الأمانة التي ذهب ضحيتها الآلاف من الضحايا الذين كانوا يطمعون في سكن في عز الأزمة السكنية التي شهدتها الدار البيضاء، ووجدوا أنفسهم بعدما تم دفع العشرات من الملايير كتسبيق بنية تملك سكن محترم بنوا عليه آمالا كبيرة ضحايا نصب منظم ساهم فيه مغاربة وأجانب، وتم شراء أراض شاسعة في منطقة عين السبع وما سمي بعد ذلك البرنوصي وسميت فضيحة لوجيكو!.
واندلعت هذه القضية في غياب والي الدار البيضاء الكبير، الذي تم تعيينه سفيرا في روما وهو مولاي مصطفى بلعربي العلوي الذي كنا معجبين ونحن صغار بتواجده في جميع أحياء الدار البيضاء وبجانب كل ضحية من ضحايا حوادث السير، مصحوبا بالكولونيل بلمراح، الأمني الشهير، وكذلك جهوده من أجل تقوية البنيات التحتية لمدينة كمدينة الدار البيضاء، إلى جانب حضوره معنا في الجامعة لتفقد أحوال الطلبة والأحياء المهمشة وتحقيق أول طريق سيار يطوق الدار البيضاء لتخفيف عرقلة السير وكذا القضاء على الأحياء العشوائية، ما دفعنا إلى الإعجاب بهذه الشخصية الوطنية الفذة المتواضعة، والتي جعلت من حكامتها في عهده مثالا يقتدى به.
وكان من مظاهر غيابه بعد تعيينه سفيرا اندلاع مثل تلك الفضائح العقارية، إذ ما كان لها أن تندلع لو كان هناك وال مثله يعرف خبايا المدينة بتلك المعرفة التي عاشها مع مقاومي المدينة قبل استقلال البلاد، مع محمد الزرقطوني ولحريزي وحسن لعرج والحاج بليوط بوشنتوف، الذي حكى لي ذلك، والراحل عبد الرحمان اليوسفي وغيرهم، وهي صفات قليل ما تجتمع في شخص رجل سلطة .
وشاءت الأقدار أن أجد نفسي خلال “محاكمة لوجيكو” التي تكلفت بالتحقيق فيها والمرافعة شهورا متعددة، وسني لا يتجاوز 25 سنة، أمام الأستاذ محمد التبر والأستاذ خليل مبارك و (ذ) عبد الرحمان الخطيب ومحامين كبار، أقوم بمرافعات ينقلها الصحافي المقتدر ابكنسر الملقب بأبو فريد على صفحات لوماتان ولماروك سوار وكذلك (ذ) أنيق، المحامي والمعلق في جريدة البيان، وصحافيين كبار آخرين مثل عبد اللطيف جبرو والقرشاوي والرويسي ومولاي مصطفى العلوي وكثير من الأسماء والأقلام اللامعة آنذاك .
ولم أكن أعلم سنة 1982 أن والي الدار البيضاء مولاي مصطفى بلعربي ومدير ديوانه وآمين سره حتاش، وهم في روما يتتبعون مرافعات قاضي النيابة العامة بمجرد ما تتسلم سفارتهم الجرائد الوطنية من مطار روما، حتى عين مولاي مصطفى وزيرا للعدل وحتاش مديرا لديوانه ويمكثا بوزارة العدل أكثر من 12 سنة، ليقترح مولاي مصطفى بلعربي كوزير للعدل اسمي كمسؤول عن نيابة عامة كبيرة سنة 1983، ظانا أن سني يقارب سن الوكيل العام المرحوم المكي نوشريف ما دمت كنت نائبا له لولا أن نبهه أحد الأعضاء بأن سني القضائي لا يتجاوز أربع سنوات، وبأن درجتي في السلم القضائي لا تتيح لي قضائيا وإداريا أن يسند المنصب إلي، رغم كفاءتي ولو عن طريق الانتداب، فطلب أن يعاين هذا النائب ويستدعيني للتعرف علي سنة 1983 ويتبناني رسميا عشر سنوات في ما بعد سنة 1993 بعدما أصدر جلالة المغفور له الحسن الثاني أمره المطاع في فجر أحد ليالي رمضان بعد الانتهاء من مرافعة الموضوع في قضية ثابت بأن يهنئني وزيره باسم جلالته، وهو ما فعل، واعتبر ذلك تهنئة من الملك له شخصيا، وهو الذي عهد إليه بأمانة العدل مدة 12 سنة، ولم تعهد لوزير قبله ولا بعده، واعتبرها تتويجا للثقة المولوية السامية وهو على عتبة تقاعده المهني وقرن تهنئة جلالة الملك بقوله لي في ذلك الفجر :
وبما أنني نلت رضا جلالة الملك بسببك، وبما أنني لم أرزق بذكر يكون حفيدا لبلعربي العلوي، فانك من الآن فصاعدا ابني بالتبني. !!!!
واختلطت علي لحظتها المشاعر ولم تفصل بيني وبين سحور تلك الليلة الرمضانية إلا دقائق معدودات.. مشاعر من الاعتزاز بالتهنئة الملكية على لسان الوزير من جلالة المغفور له الحسن الثاني، وتأثر الوزير واعتباري ابنا بالتبني، وأجبته بإلهام من الله:
الحمد لله معالي الوزير أن قرن هذه الليلة المباركة بفرحتين، الأولى فرحة رضا جلالة الملك علينا وفرحة كوني أصبحت حفيدا بواسطة هذا التبني للفقيه بلعربي العلوي، شيخ الإسلام وأحد المؤسسين البارزين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية .!
ومازالت الأخت الوحيدة للا عائشة التراب على قيد الحياة شفاها الله وأطال عمرها تسأل عني وأسأل عنها بهذه الصفة، كما مازالت ابنته للا عبوش حفظها الله أسأل عنها وتسأل عني كأخت، هي وعائلة الأب الروحي والأب بالتبني والأب المهني مولاي مصطفى بلعربي العلوي رحمه الله.
لذلك كان فضل الصحافة علي كبيرا في مساري المهني وتتالت مواقفي الصحافية مع عدد كبير من الصحافيين الذين توطدت معهم علاقة الإعجاب والتقدير والاحترام المتبادلين، وكان البعض يناصرني والبعض الآخر يعاتبني، وهو ما كنت ومازلت أقدره واحترمه.
كما كان لي شرف قدم السبق في فتح جسر للتواصل عقب كل جلسة في المحاكمات الشهيرة، وقبل أن ينعم القضاة بحرية التعبير دستوريا، أن أجيب في ندوات صحافية وعبر الإذاعة والتلفزة وباقي القنوات الوطنية والدولية، كما سبق أن عينني الأستاذ إدريس الضحاك في الذكرى الخمسينية للمجلس الأعلى التي عرفت بعدا وطنيا ودوليا، واستمرت سنة كاملة، ناطقا رسميا باسم المجلس الأعلى آنذاك.
وانتخبني زملائي القضاة والقاضيات ناطقا رسميا باسمهم أيام الجمعية الوحيدة ولايتين متتابعتين من 2006 إلى 2014.
البذلة السوداء.. كيف وجدتم هذه المهنة بعدما كُنتُم أحيانا تتصادمون معها كنيابة عامة؟
المحاماة كما أسميها دائما هي أم القرى، وهي أم المهن، علاقتي بها أنها لها فضل تكويني من الناحية المهنية مرافعة وقانونا وتفسيرا للنصوص ودفاعا عن الحق وإزهاقا للباطل. وكان لي الحظ أن أتتلمذ على يد جهابذة من فطاحلها كما تتلمذت على يد رجالات في القضاء والسياسة والحكم والصحافة والأدب.
وأحسن مقياس لتقييم الإنسان هو أهمية الموضوعات التي يتجادل فيها كما قال لا فونتين، وهل هناك موضوع أكثر أحقية من الجدال في الحق الذي ينشده القاضي ويدافع عنه المحامي واستبعاد الظلم الذي حرمه الله على نفسه؟.
ولعل هذه هي الغاية التي اخترت بها المحاماة عن عشق لأختم بها حياتي المهنية ولأرد لها جميل التكوين، وقد أكرمتني بحسن وفادتها. وكما لا أنسى جميل القضاء الذي ودعني فيه زملائي بالعبرات، لا أنسى كذلك رسالة الشكر التي قدمها لي المجلس الأعلى للقضاء، والتي تضمنت إشهادا بالمسار المهني الذي اعتبره المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي كان لي شرف المساهمة في قوانينه قبل إنشائه.
وبنفس العبارات استقبلني النقباء، وعلى رأسهم الأستاذ النقيب محمد حسي ومجلس الهيئة وكل النقباء الذين احتفظ بشهاداتهم الكتابية، والتي أرفق بعضها بهذا الاستجواب الصحافي، سواء تلك التي خصني بها النقيب (ذ) عبد الله درميش الذي عملت معه، أو النقيب (ذ) محمد الشهبي وزميل الدراسة النقيب (ذ) بوعشرين، والنقيب (ذ) محمد الناصري، والنقيب (ذ) محمد بطاش، و(ذ) الطاهر موافق، اللذان حضرا بمعية (ذ) يوسف الشهبي و(ذة)كاميليا القدميري، و(ذة) فاطمة الزهراء الرياحي كريمتي، والتي شجعتها منذ البداية للانتماء إليها، وقبلها أختي وصهري العزيز المحامي (ذ) آمين مداح، سليل البيت القضائي، ومجموعة من الزملاء والزميلات الذين يتذكرون أنني كنت أحثهم على الانتماء إلى مهنة النبلاء، والوكيل العام للملك (ذ) حسن مطار، والسيد الرئيس الأول (ذ) عبد العزيز الفتحاوي، وباقي الزملاء والزميلات الذين شرفوني في الجلسة الخاصة لأداء اليمين القانوني، والذين أخجلوني ترحابا وحسن وفادة وشرف استقبال لن أنساه مدى الحياة.
ووضعوا على عاتقي دينا آخر هو حبهم وتقديرهم للشخص قبل المنصب، وكذلك لباقي الزملاء والزميلات من القضاة والقاضيات ورؤساء الجمعيات المهنية وأعضاء كتابة الضبط، والأعوان القضائيين الذين كان لي شرف إعداد مشروع قانونهم الأساسي بمعية السيد الرئيس والفقيه (ذ) بحماني، بطلب من وزير العدل الأستاذ المشيشي العلمي سنة 1994، والعدول والموثقين ورجال السلطة ورجال الأمن الذين مازالت تجمعني مع معظمهم علاقات الود والاحترام المتبادلين والمصلحة العامة، والتي تناولت مذكراتي المنشورة أو التي في طريق النشر ذكريات عشتها معهم ومازالت منذ ما يزيد عن أربعين سنة ومواقف جديرة بالتوثيق.
في ظل هذه الجائحة، ظهرت الحاجة إلى تطوير محاكم المملكة، وكذا إلى المحاكمات عن بعد، هل ترى أن هذا الأمر سيتكلل بالنجاح؟
سبق أن نشرت لي عدة مقالات حول هذه الجائحة التي نطلب من الله تعالى أن يجنب بلادنا آثارها الوخيمة، وقلت في إحدى المقالات قولة دانتي المشهورة: بل مازال هناك أمل للنجاة !
فأكبر عبء يحمله الإنسان في هذه الحياة عندما يشعر بأنه لا يحمل عبئا على الإطلاق، وهي قولة شهيرة لبرتراند راسل، وعلمني إياها في الحياة العملية والمهنية والدي بالتبني ومعلمي مولاي مصطفى بلعربي العلوي رحمة الله عليه في ظروف صعبة.
فإذا كانت النار محك الذهب فالظروف الصعبة محك الإنسان، لذلك ينبغي أن نتعامل مع هذه الجائحة تعاملا في مستوى عظمة المغاربة، ولا شك أنهم أبانوا عن ذلك ملكا وشعبا وحكاما ومحكومين، ونجحنا إلى حد الآن أمام العالم في التغلب على هذه الجائحة التي لم تسلم من ويلاتها أي أمة من الأمم.
وإذا رجعتم إلى البرنامج الإصلاحي الذي خرجت بواسطته السلطة القضائية للوجودية عهد وزير العدل المحنك الأستاذ مصطفى الرميد، تجد أن المحاكم الرقمية برمج العمل بها سنة 2020، ولم نكن نعلم آنذاك أن جائحة كورونا سوف تتزامن مع هذا الإنجاز الذي كان يظهر بعيدا عند اجتماع اللجنة العليا لإصلاح منظومة العدالة؛ وبذلك يمكن القول إن المغرب استبق الأحداث وكان كل الحقوقيين على علم مسبق واستعداد لإخراج المحاكم الرقمية، وما جائحة كورونا اليوم إلا استنفار لإكمال هذا الورش .
وأظن اليوم أن الرؤيا تكاملت أكثر من أي وقت مضى لإبراز سيادة القانون كتتويج للإصلاح القضائي الذي بدونه لا يمكن تصور أي تنمية. والقضاة غالبيتهم كانوا يعملون عن بعد، وخصوصا الجالسين منهم الذين يحررون أحكامهم ووقائع القضايا في مكاتب منازلهم.
وحكى لي النقيب المرحوم الأستاذ الناصري في ثمانينيات القرن الماضي وأثناء زيارة له إلى محاكم كندا أن المحامي أصبح يستغني عن الذهاب للمحكمة، كما أنه في مؤتمر المحاكم العليا الناطقة بالفرنسية الذي عقد في مراكش في العشرية الأولى من القرن الحالي، وكذا في الذكرى الخمسينية، بتنظيم للأستاذ إدريس الضحاك، أطلعنا زملاؤنا القضاة والمحامون ببداية تجارب التقاضي عن بعد وكذا المداولات عن بعد، إذن تشريعا وفكرا الأمر ليس بجديد.
العلم اليوم يكاد يُجمع بأن على الإنسانية أن تتعايش مع هذه الجائحة ومع آثارها الاقتصادية الوخيمة مدة طويلة، كما ينبغي التفكير في ما لا قدر الله نشأت جائحات أخرى، وما هي الاستعدادات التي على الإنسانية التنبؤ بها كي لا يقع ما وقع على حين غفلة. وكما يقول المثل: الحكم هو التنبؤ.
ناهيكم عن أن مشاركة المحامين، كمشاركتهم في اللجنة العليا لإصلاح العدالة، يجب أن تكون قائمة باعتبارهم الشريك الأصيل في إنجاح هذه التجربة، زيادة على ضرورة انكباب الدولة والسلطات على إعطاء أولوية لمهنة المحاماة من أجل مساعدتها عن طريق أفكار نقبائها وقيادتها وشبابها من أجل التخفيف من الآثار الوخيمة التي قد تترتب عن هذه الجائحة أو غيرها في المستقبل، وذلك بتفعيل توصيات ينادي بها المحامون الذين ليسوا مساعدين للعدالة كما جرت تسميتهم إجحافا، بل إنهم صلبها وكينونتها وحياتها واستمرارها. ولا يمكن تصور عدالة كفأة ونزيهة وفعالة دون محاماة، وذلك ليس دفاعا عنها لأننا أصبحنا محامين، لأنها لا تحتاج إلى دفاع، وإنما مساهمة للرفع من شأنها ومساعدتها كما يساعد القضاء ماديا ومعنويا، خدمة للمواطن كما أرادها جلالة الملك محمد السادس في خطبه المتعددة، والتي شرفها بارتداء بذلتها بكل ما يرمز له هذا الارتداء من تقدير لدورها في أداء رسالتها السامية وتجسيد قيمها النبيلة .
فهي “فَنّ الحُجَّة وَالجَدَل وَالبُرْهان وَالإِقْناع.. فَقَدَ كَان رُوّاد الفَلْسَفَة مُحامِيْنَ بِما يملِّكُونَ مِن حُجَج وَلُغَة عالِيَة وَنَظْرَة ثاقِبَة .. وَكَثِير مِن الشَعْراء كانُوا مُحامِيْنَ بِما يَمْتَلِكُونَ مِن أَدَوات اللُغَة وَالبَلاغَة وَالفَطِنَة .. فَلَيْسَ عَمَل المُحامِي الفَصْل فِي النزاع إِنَّما هُو عَمَل القاضِي”، كما قال السنهوري .
وما دامت فنا فهي ملك للإنسانية جمعاء لا حدود لترابها ولا تقييد لحرية تعبيرها، ولا عيش بدونها، وهو ما جعلنا نعشقها قبل أن نمارسها.