الوطن ليس مقاولة يا سادة..
” عندما يصبح الوطن سلعة فلا تتعجب من كثرة التجار” المهدي المنجرة
منذ عقود ولا حديث في النقاش العمومي، وفي كواليس تدبير الشأن العام إلا عن مشاكل التنمية والبحث عن النموذج التنموي، حتى غدا كل شيء معلقا بالتقدم الذي لا يأتي، ومرهونا بالنهضة لم تصل، وانتهى الأمر إلى اعتراف رئيس المجلس الأعلى للحسابات في كلمته أمام البرلمان بأن هذا المسار قد أدى بالحكومات المتوالية إلى إغراق المغرب في المديونية، فوصلت قيمة الدَين العمومي أكثر من 970 مليار درهم، بنسبة تجاوزت 90% من الناتج الداخلي الخام، موازاة مع مؤشرات التنمية التي لا تريد أن ترتفع، ومؤشرات التخلف والفقر التي تأبى إلا الارتفاع. فأين الخلل إذن؟ هل في التدبير الحكومي، مع أن توالي الحكومات لم يغير من واقع الحال شيئا؟ أم في الرؤية المؤسسة للنموذج التنموي؟
عندما اعتبر الوزير لحسن الداودي أن العلوم الإنسانية مَضيَعة للجهد والمال، وأن مصير خريجي كليات الآداب والعلوم الإنسانية البطالة، توقف المعارضون عند الرأي باعتباره موقفا سياسيا، وتُنوسي كونه تعبيرا عن محاباة لنخبة تحكم الوطن، أو بحثا عن شرعية الوجود بينها. فكل المشاريع التي تقدم، والقوانين التي تصدر، تبرز أننا أمام نخبة لا تنظر للمواطن إلا كمستهلك لسلعها المتعددة. فالهوية غدت ورقة للتوظيف السياسي، والثقافة فلكلورا للبهرجة والتنشيط، والتعليم آلية لتخريج خَدَم التقنية، حتى أصبحت تخصصاتها تحظى بالرعاية والأولوية…والغائب الأساسي هو إنسية المواطن وانتماؤه إلى التراب والتاريخ والأمة. فقد راهن تقرير الخمسينية، الذي رسم خارطة طريق للمغرب الجديد، والذي أتت رؤية التعليم الاستراتيجية لتنفيذ عناصره الأساسية، على المدرسة الجديدة التي وصفها بكونها “منتجة للمضامين ولقيم المواطنة وضامنة للرقي الاجتماعي”. وأنها مدرسة قادرة على ربح رهان الجودة والاستجابة لمتطلبات القرن الواحد والعشرين. والغاية الأسمى هي التمكن من ولوج عوالم اقتصاد المعرفة وربح معركة التنمية. وفي مسار الربح هذا تتغير الآليات والوسائل المستعملة لبلوغ الغايات. فالقادة المستقبليين، والذين ليسوا إلا نسخا للنخب المسيرة حاليا، هم فنيون يتقنون التفكير “الاختصاصي” دون الاستراتيجي، والتقني دون المعرفي، وتتحول وظيفة المدرسة المأمولة إلى صناعة كفاءات فنية وليست فكرية معرفية، حيث يتحول الحُكم إلى مجرد إدارة، لأن المعرفة الفنية معرفة محايدة كما سبق لسان سيمون (تـــ 1825) الإقرار به. لذا فمحاولة الإصلاح التربوي التي بشرنا بها المجلس الأعلى للتربية والتكوين هي نمذجة خاصة لإطار المستقبل. ومغرب المستقبل الذي يغدو سوقا كبيرة للبيع والشراء والقيم والثوابت إلى عناصر للمزايدة، “فتحولت المدرسة من مؤسسة لإنتاج القيم والمعارف إلى سلعة تجارية، إلى بضاعة استهلاكية تباع وتشترى، وتخضع لقانون العرض والطلب، ويستطيع البعض الحصول عليها بينما يعجز البعض الآخر عن ذلك، وتتعرض في بعض الحالات للغش كأي سلعة أخرى “. وفي هذا المسار يغدو التعليم آلة لإنتاج نوع خاص من القادة الذين يعيشون عالمهم التقني دون الرؤيوي وبقيم البيع والشراء و”تصبح الخدمة التعليمية سلعة لا يحصل عليها إلا من يقدر على دفع ثمنها في السوق “. فهل هذا ما نريده من المدرسة؟ وهل هذا هو الوطن الذي نحلم به؟
إن ما تعرضه علينا الرؤية الاستراتيجية للتربية والتكوين، وأخواتها من المشاريع والقوانين، ليست إلا تمثلا لقيم التسليع التي تفكر بمنطق الربح، محاولة لتنفيذ إملاءات المركز على الهوامش. فالإجهاز على المجانية، والفوضى البادية في مراقبة التعليم الخصوصي، حتى غدا في بعض الأحيان خارج السلطة، والغلاء المتزايد في الكتب والمقررات الدراسية، وصولا إلى إخضاع المضامين لقيم الليبرالية والكونية والانسلاخ عن الانتماء الهوياتي الوطني، وصولا إلى تسليع اللغة وجعلها آلية للارتباط بالمركز الفرنسي المتحكم في اقتصاد البلد وهويته، من خلال عائدها الاستثماري الذي تستفيد منه النخبة المتنفذة، ليست إلا صورا لتنزيل رؤية تسليع المدرسة المغربية ومعها الوطن بأكمله. فالخطاب الرسمي عن التنمية، وتجييش مقومات الوطن من أجل ذلك، بغية جلب الاستثمارات الأجنبية وجعل التعليم وسيلة لإعداد يد عاملة مؤهلة تأهيلا ضعيفا أو تقنيا يستفيد منها المستثمرون الخواص بكلفة متدنية، ليس إلا تمثلا لوهم لن يتحقق إلا بالعودة إلى الإنسان الغائب في كل تحديد.
بقلم : فؤاد بوعلي