التأصيل القانوني لأخلاقيات التحكيم التجاري الدولي
بقلم: ذ . نور الهدى فرتول
تعتبر الأخلاق المعيار الأساسي الذي يتم من خلاله التمييز بين ما هو فضيلة، وما هو رذيلة، أي ما هو العمل الذي يعتبر فضيلة وما هو العمل الذي يعتبر رذيلة، وهي مسألة نسبية حول ما يفضله المجتمع وبين ما ينبذه من تصرفات وأفعال وظروف وأوقات معينة، وهي غالبا ما تتأثر في ثقافته.
وتعد إرادة الأطراف من أهم مميزات التحكيم التجاري الدولي في اللجوء وبكل حرية للتحكيم باعتباره أحد الوسائل البديلة لتسوية المنازعة التجارية التي تنشأ بين الأطراف، إذ أصبح في الوقت الحاضر يشكل أهم هذه الوسائل نظرا لسرعة البت في القضايا المعروضة على الهيئة التحكيمية. والمحكم يمثل رأس الرمح في التحكيم، وعلى الأطراف ومراكز التحكيم أخذ كل الحذر عند النظر في تعيين أواختيار المحكم نظرا لجسامة الدور الذي يقوم به.
وإيمانا بأهمية دور المحكم في نجاح العملية التحكيمية منذ بدايتها حتى صدور القرار التحكيمي، قامت العديد من الجهات بإعداد قواعد للاسترشاد بها وهي عبارة عن قواعد قانونية أخلاقية سلوكية ملزمة.
وتشير فكرة الأخلاقيات القانونية أوالمهنية إلى مجموع القواعد والمعايير السلوكية المقبولة في المهن القانونية التي ترتبط بالواجبات المتعينة على المرء الالتزام بها، حيث يعتبر سلوكا منافيا للأخلاقيات متى تعارض مع القواعد الأخلاقية والمعايير المهنية، وبالمثل، فإن مفهوم الأخلاقيات في التحكيم الدولي يشير عادة إلى القواعد والمعايير الدولية المنطبقة على سلوك المحكمين.
وتبعا لذلك، سنحاول في هذا المحور إلى التطرق لمفهوم الأخلاقيات في التحكيم التجاري الدولي لدى بعض القوانين والمراكزالدولية التحكيمية الغربية (المحور الأول)، على أن نتطرق في المحور الثاني لأهم القوانين والمراكز الدولية التحكيمية العربية التي حاولت أن تعطي مفهوما لأخلاقيات التحكيم التجاري الدولي (المحور الثاني).
المحور الأول: مفهوم الأخلاقيات لدى القوانين والمراكز الدولية التحكيمية الغربية
يعد العمل التحكيمي من أفضل الأعمال الغير قضائية التي راهنت عليها التجارة الدولية والتبادل الاقتصادي لتسوية المنازعات في ظل ما يعرفه العالم من تطورات وتحولات تطرحها العولمة من جهة، ومن جهة أخرى ما يمتاز به من خصائص تميزه عن قضاء الدولة. ومما لا شك فيه فإن الجانب الأخلاقي له أهميته في إنجاح عملية التحكيم.
وبالرجوع إلى تقارير لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي في دوراتها المختلفة الممتدة منذ سنة 2015 إلى حدود سنة 2017 والتي كانت تحث خلال كل دورة أعضاء الأمانة بضرورة صياغة نصوص قانونية لإخراج مدونة خاصة بأخلاقيات المحكمين نجدها لم تقم بإعطاء تعريف واضح وشامل لمفهوم أخلاقيات التحكيم الدولي، بل أشارت بصفة صريحة من خلال المادة 12 من قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي انه: ” على الشخص حين يفاتح بقصد احتمال تعيينه محكما أن يصرح بكل الظروف التي من شأنها أن تثير شكوكا لها ما يبررها حول حياده واستقلاله. وعلى المحكم، منذ تعيينه وطوال إجراءات التحكيم، أن يفضي بلا إبطاء إلى طرفي النزاع بوجود أي ظروف من هذا القبيل، إلا إذا كان قد سبق له أن أحاطهما علما بها “.
كما نصت الفقرة الثانية من نفس المادة على أنه: ” لا يجوز رد المحكم إلا إذا وجدت ظروف تثير شكوكا لها ما يبررها حول حياده أو استقلاله أوإذا لم يكن حائزا لمؤهلات اتفق عليها الطرفان. ولا يجوز لأي من طرفي النزاع رد محكم عينه هو أو اشترك في تعيينه إلا لأسباب تبينها بعد أن تم تعيين هذا المحكم”.
انطلاقا من مضمون المادة أعلاه، يتضح جليا أن قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم الدولي، لم يقم بإعطاء تعريف واضح ودقيق لأخلاقيات التحكيم الدولي، وإنما سلط الضوء على الأخلاقيات التي ينتظر من المحكم التحلي بها من قبيل، الالتزام بواجب الإفصاح للأطراف عن أي ظروف يحتمل أن تثير شكوكا حول العملية التحكيمية وحسن سيرها بشأن حياده واستقلاليته، و أن يكون المحكم ذوي خلق رفيع وذوي كفاءة معترف بها في مجالات القانون أو التجارة أوالصناعة أوالشؤون المالية، هذا فضلا على عدم جواز رد المحكمين لأي سبب غير التي يمكن أن تظهر أثناء مباشرة الإجراءات التحكيمية وتعيين المحكم.
وباستقرائنا لنصوص قانون التحكيم الفرنسي خاصة المواد من 1508 إلى 1519 نجده لم ينص صراحة على تعريف أخلاقيات التحكيم ، وإنما عمل من خلال المادة 1456 على إلزام المحكم أو المحكمين الذين تم قبولهم لمباشرة المهمة المكلفين بها أن يكشفوا عن الظروف التي قد تؤثر على استقلالهم أوحيادهم، كما يطلب من المحكم أيضا الكشف فورا عن أي ظرف مماثل قد ينشأ بعد قبوله المهمة في حالة الخلاف بشأن حماية المحكم، سوى ذلك الخلاف بواسطة الشخص المكلف بتنظيم التحكيم أو القاضي المختص، و يسوى الخلاف في الشهر التالي لاكتشاف النزاع.
وفي هذا الصدد، ذهب جاك فواييه الأستاذ بجامعة بانتيون ـ أساس باريس الثانية ـ محاولا إعطاء تعريف للتحكيم الأخلاقي بالإشارة إلى القوة الملزمة للقواعد الأخلاقية، وطرح مسألة المقاربة الأخلاقية في ممارسة التحكيم مستشهدا بعبارة رومانية تقول: “العادات الحميدة أفضل من القوانين”، كما أن الأخلاقيات تهدف إلى إضفاء روح جديدة على التحكيم الدولي، وعلى الأقل التحكيم الداخلي.
واعترف البروفيسور فواييه بصعوبة تحديد مفهوم الأخلاقيات قائلا، إن ممارستها أسهل من تعريفها، فمثلا افعل ما هو جيد ولا تفعل ما ليس جيدا .
وتعتبر غرفة التجارة الدولية (ICC) أحد أهم المنظمات الدولية في مجال التجارة العالمية، حيث ساهمت منذ إنشائها في تنظيم العديد من قواعد التجارة العالمية من عقود البيع الدولي إلى خطابات الاعتمادات المستندية ومصطلحات البيع الدولية المسماة باختصار ب “نكوتيرمز”، ومن أهم إسهامات غرفة التجارة الدولية في تسوية منازعات التجارة الدولية ما تقوم به عبر محكمة التحكيم وقواعد التحكيم التي وضعتها ونظمتها غرفة التجارة الدولية
وبالرجوع لقواعد غرفة التجارة الدولية خاصة المادة الحادية عشرة، نجدها لم تقم بإعطاء أي تعريف لمفهوم الأخلاقيات بل أشارت إلى مبدأي الحياد والاستقلالية الذي يلزم المحكم التحلي بهما مع الأطراف المشاركة في التحكيم، إذ توجب قواعد الغرفة المحكم قبل التعيين أو تأكيد تعينه ان يوقع بيان قبول، توفر الحياد والاستقلالية كما يتعين على المحكم أن يصرح خطيا للأمانة أي وقائع أو ظروف تشكك في استقلاله في نظر الأطراف، وكذلك أي ظرف من الظروف التي يمكن أن تثير شكوك معقولة لحياد المحكم.
وفي نفس الاتجاه، سار المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بالولايات المتحدة الأمريكية من خلال المادة 13 المتعلقة بحيادية المحكمين واستقلالهم، إذ ألزمهم أن يكونوا محايدين ومستقلين وعليهم العمل وفقا لبنود إشعار التعيين المرسل من المسؤول الإداري، وفور قبول التعيين، على المحكم التوقيع على إشعار التعيين المرسل من المسؤول الإداري مؤكدا على توافر المحكم للقيام بالمهام وحياده واستقلاله. وعلى المحكم الكشف عن أي ظروف جديدة من شأنها إثارة الشكوك حول حياده أو استقلاليته وأي وقائع أخرى يرغب المحكم في عرضها على الأطراف. وتضيف المادة في فقرتها الثالثة أنه إذا نشأت ظروف تثير تلك الشكوك في أية مرحلة من مراحل التحكيم، فعلى المحكم المعني الإفصاح فورا عن هذه الظروف للأطراف والمسؤول الإداري، وعلى المسؤول الإداري فور استلامه تلك المعلومات من محكم أو من أي طرف إطلاع جميع الأطراف وهيئة التحكيم عليها.
المحور الثاني: مفهوم الأخلاقيات لدى القوانين والمراكز الدولية التحكيمية العربية.
حظيت مسألة أخلاقيات التحكيم الدولي باهتمام كبير من قبل القوانين العربية وكذا المراكز الدولية العربية للتحكيم، إذ بدورها لم تقم بإعطاء تعريف محدد لأخلاقيات التحكيم وإنما وضعت أهم قواعد السلوك المهني للمحكم الدولي التي يتوجب عليه التحلي بها اثناء ممارسته للعمل التحكيمي. وتبعا لذلك نجد المشرع المغربي أفرد بابا خاصا لنظام التحكيم في قانون المسطرة المدنية، حيث نظمه من خلال الباب الثامن من القسم الخامس المتعلق بالمساطر الخاصة وبالضبط من الفصول 306 إلى 327 منه. وباستقرائنا للفصول المذكورة، نجد غياب تام لمفهوم أخلاقيات التحكيم التجاري الدولي، وهي مسألة ليست غريبة عن المشرع المغربي الذي يترك باب التعريفات للفقه وإنما أشار من خلال المادة 327 ـ6 على المحكم قبل البدء في مهمته أن يفصح كتابة عند قبوله عن أي ظرف من شأنها إثارة شكوك حول حياده واستقلاله، وقبلها نص صراحة من خلال المادة 326 من نفس القانون إلزامية المحكمون بكتمان السر المهني طبقا لما هو منصوص عليه في القانون الجنائي. كذلك المادة 320 حددت الصفات التي يتعين أن يمتاز بها المحكم من قبيل أن يكون كامل الأهلية لم يسبق أن صدر عليه حكم نهائي بالإدانة من أجل ارتكاب أفعال تخل بالشرف أو صفات الاستقامة أو الآداب العامة أو بالحرمان من أهلية ممارسة التجارة أو حق من حقوقه المدنية.
ونسجل هنا كذلك ما ذهب إليه قانون التحكيم القطري في الفقرة الأولى من المادة 11 نجده لم يقم بإعطاء تعريف لمفهوم الأخلاقيات في التحكيم الدولي و إنما نص صراحة على الشروط القانونية التي ينبغي توافرها لدى المحكم، و فصل هذه الشروط بأن يكون كامل الأهلية، وألا يكون قد أدين بحكم نهائي في جناية أو جنحة مخلة بالشرف أو الأمانة، ولو كان رد إليه اعتباره وأن يكون محمود السيرة وحسن السمعة، وأوضحت المادة المذكورة أعلاه من خلال فقرتها الثالثة على ضرورة تمتع المحكم بالاستقلالية والحيادية والالتزام على اعتبار أن انقطاع صلة التبعية بين المحكم وبين أي أطراف الدعوى التحكيمية يمنع حدوث أي تأثير على صدور قرار الحكم بشكل نزيه وعادل .
كما أوضح قانون التحكيم القطري على أنه لا يجوز للمحكم أن يتنحى عن العملية التحكيمية بعد قبولها دون سبب لما يترتب عليه من أضرار بمصالح أطراف النزاع وحقوقهم المالية، وكذلك سرية التحكيم التي لا يريد أطراف النزاع أن يزداد المطلعون على موضوع نزاعهم فيها.
ونشير في هذا الصدد لأهم القواعد القانونية التي وضعتها بعض المراكز العربية الدولية كتشريع المجمع العربي للتحكيم الذي نص صراحة من خلال تشريعه على مجموعة من المبادئ التي يتعين على المحكم الالتزام بها من قبيل،عدم جواز المحكم السعي نحو تعيينه أواختياره كمحكم من خلال الاتصال بأطراف النزاع، التأكد من القدرة والصلاحية لأداء المهمة موضوع البحث بكل شفافية شرط أساسي للمحكم في عملية قبوله للتعيين أو اختياره كمحكم. كما يلزم تشريع المجمع العربي للتحكيم المحكمين بالإحاطة بكل الظروف التي من شأنها إثارة شكوك حول حيادهم أواستقلالهم وشفافيتهم في مهمة التحكيم التي سيعقدونها، هذا فضلا عن ضرورة الالتزام بالمحافظة على سرية كافة المعلومات التي حصل عليها من كلا الطرفين والمتعلقة بالتحكيم بما فيها المداولات وقرار التحكيم .
وما يمكن ملاحظته في هذا الخصوص كذلك عدم تضمين لأي تعريف أو إشارات لقواعد السلوك والقيم التي يجب أن يتحلى بها المحكمين بالنظام الأساسي للاتحاد الدولي العربي للتحكيم الدولي بالرغم من اعتماده للقانون النموذجي الأونسيترال.
على أساس ما سبق، لقد حظي موضوع وضع مدونة أخلاقيات المحكمين في مجال التحكيم الدولي بالاهتمام عموما، من قبل مختلف الفاعلين والمتخصصين في لجنة الأمم المتحدة، بحيث عرض على اللجنة المذكورة في دورتها الثامنة والأربعين المنعقدة في عام 2015 مقترح للأعمال المقبلة بشأن وضع مدونة أخلاقيات المحكمين في مجال التحكيم الدولي تعالج سلوك المحكمين.
خاتــمــة:
ختاما لهاته الدراسة، فإن العلاقة بين الأخلاقيات والقانون فيها نفس المصاعب التي تجدها بين العرف والقانون، وأن الأخلاقيات حاضرة دائما في التحكيم الدولي، وهي لا تخص فقط المحكم بل أيضا جميع الأطراف والمستشارين، وفي الغالب ينصرف مفهوم الأخلاقيات في التحكيم الدولي إلى فكرة الاستقلالية والحياد، فمفهوم الاستقلالية تطبيقه يظل سهلا ويفرض غياب أي علاقة بين المحكم والمستشارين والأطراف، أما الحياد فيظل مفهومها معقدا ويتطلب تصرف ذاتي واستعداد نفسي .