بين السلطتين التنفيذية والتشريعية
بقلم الأستاذ:
إذا كان المشرع الدستوري قد سمح للحكومة بالمبادرة التشريعية، وأقول المبادرة، من خلال اقتراح “مشاريع القوانين”، إلى جانب البرلمان، عبر مقترحات القوانين، حسب الفصل 70من الدستور، وللمواطنات والمواطنين، عبر الملتمسات في التشريع، حسب الفصل 14 من الدستور، إلى جانب الملك في المجال المحفوظ له كالمجال الديني(الفصل 41) والمجال العسكري(الفصل 53)..الخ، وفي باقي المجالات في حالة الاستثناء، ولو بسكوت الفصل 59 من الدستور عن ذلك؛ وإذ سمح المشرع ذاته للحكومة بالمساهمة في المسطرة التشريعية من خلال عدة آليات، فإنه قد أوكل لها وحدها، أمر تنفيذ وتنزيل وأجرأة مقتضيات تلك التشريعات، بعد استصدار الملك لأمر تنفيذها وفق الفصل 50 من الدستور، إلى جانب تنفيذ برنامجها الحكومي “المصادق عليه” وفق الفصل 88 من الدستور.
وحتى يضمن المشرع الدستوري فعالية أكبر في هذا المجال ميز بين السلطتين التنفيذية والتنظيمية، وأسندهما معا للحكومة، مع وضع حدود لكليهما. إذ خصص لكل سلطة فصلا من الدستور قائما بذاته. ففي الفصل 89 من دستور 2011 جاء ما يلي: “تمارس الحكومة السلطة التنفيذية. تعمل الحكومة، تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين. والإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية.”
أما الفصل 90 الذي يليه مباشرة فيقول:” يمارس رئيس الحكومة السلطة التنظيمية. ويمكن أن يفوض بعض سلطه للوزراء. تحمل المقررات التنظيمية، الصادرة عن رئيس الحكومة، التوقيع بالعطف من لدن الوزراء المكلفين بتنفيذها.”
كما أن بعض القوانين التنظيمية كرست هذه المقتضيات الدستورية وقننتها بشكل واضح، لا يدع مجالا للتشكيك فيها، أو تحميلها أكثر مما تحتمله نيةُ المشرع في التمييز بين حقول السلطة في أفق بناء القرار العمومي، وذلك بشكل يستحضر لكل سلطة حدودها الدستورية، من مثل ما جاء في القانون التنظيمي 065.13 يتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، خاصة في المادة 5 التي تقول: “يمارس رئيس الحكومة الصلاحيات والمهام المخولة له بموجب الدستور وهذا القانون التنظيمي والنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل. وهو بهذه الصفة، يمارس السلطة التنظيمية، ويشرف على تنظيم أشغال الحكومة ويرأس مجلسها، ويسهر على تنسيق وتوجيه أعمالها، وتتبع أنشطة أعضائها، ومواكبة عمل مختلف السلطات الحكومية والإدارات العمومية التابعة لها، والمؤسسات والمقاولات العمومية وسائر أشخاص القانون العام الموضوعة تحت وصاية الحكومة، كما له أن يصدر توجيهاته إلى السلطات والمؤسسات المذكورة. ويتولى، علاوة على ذلك، تمثيل الدولة والدفاع عن مصالحها أمام القضاء وإزاء الغير طبقا للنصوص التشريعية الجاري بها العمل.”
وهذا وحده كاف ليبرز المكانة التي تحتلها الحكومة باعتبارها الأداة الأولى والأساس، على الإطلاق، لصنع القرار العمومي وتصريفه، وإن لم تكن الوحيدة، على غرار أغلب الأنظمة البرلمانية التي تبالغ في اعتماد العقلنة البرلمانية، كما الشأن في بلدنا. هذا القرار العمومي الذي يجد مرجعيته، لا محالة، في البرنامج الحكومي بصفة عامة، وبناء على التوجيهات الملكية المرسومة سلفا. وما التشريع في نهاية كل تحليل إلا تنزيل قانوني للسياسات العمومية المستمدة من البرنامج الحكومي، المتعاقد عليه مع الناخبات والناخبين، ومن التوجيهات الملكية.
ولتنزيل ذلك تنزيلا سليما جعل الدستور السلطة التنفيذية بيد الحكومة ككل “تحت سلطة رئيسها”، في حين جعل السلطة التنظيمية بيد رئيس الحكومة أولا، وله بعد ذلك تفويضها للوزراء. والمشرع الدستوري بذلك إنما أراد في الحالة الأولى تقييد المسؤولية الجماعية للحكومة في تنزيل القوانين ومقتضياتها التشريعية باعتبارها “أسمى تعبير عن إرادة الأمة” كما يقرر ذلك الفصل السادس من الدستور نفسه. في حين قصد بالحالة الثانية ربط المسؤولية بالمحاسبة، على اعتبار أن المجال التنظيمي، والذي يتمتع فيه رئيس الحكومة بنسبة مهمة من الاستقلالية، يجب ان يتم تقييده بمبدأ “المسؤولية السياسية” لرئيس الحكومة، في شخصه أولا، ثم باعتباره رئيسا للأغلبية، “مسؤولا عن القرارات التنظيمية التي يتم اتخاذها ثانيا”.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن السلطتين معا تمثلان وجهين لعملة واحدة، بحيث تكمل احداهما الأخرى، تمكينا للسلطة التنفيذية، أي الحكومة، من وضع الإدارة في خدمة تنزيل إرادة المشرع من خلال ترجمة النصوص التشريعية، أي القانون بمفهوم الفصل 71 من الدستور، على أرض الواقع، وفي نفس الوقت تدبير الشأن العام من خلال أشغال الإدارة، وإدارة الشؤون العامة بما يقتضيه دوام النظام والتنظيم.
من خلال ذلك نجدنا أمام أساسين مندمجين غير قابلين للفصل، إلا لغرض الدرس القانوني، ذانك هما تنزيل التشريع، وبناء القرار العمومي، في صيغة النصوص التنفيذية والنصوص التنظيمية. وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول علاقة بناء التشريع ببناء القرار العمومي عبر بوابة العلاقة الجدلية بين الفاعل السياسي والفاعل القانوني، من جهة، وبين الإدارة والفاعل السياسي من جهة أخرى. لكن، أسفا، ليس هذا مقام تطارح مثل هذه العلاقة التي لها الكثير من الحيثيات والأوجه.
تنزيل المقتضيات التشريعية في النصوص التنفيذية
إذا كان الدستور، في فقرته الثالثة من الفصل السادس، يعتبر أن:” دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة”. وإذا كان يقرر أن الملك، بما هو “رئيس الدولة، وممثلها الأسمى… يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي ” يصدر: “الأمر بتنفيذ القانون خلال الثلاثين يوما التالية لإحالته إلى الحكومة بعد تمام الموافقة عليه.” فإنه، أي الدستور، قد ألزم الحكومة بنشر “القانون الذي صدر الأمر بتنفيذه، بالجريدة الرسمية للمملكة، خلال أجل أقصاه شهر ابتداء من تاريخ ظهير إصداره.” وفق الفصل 50 من دستور 2011.
إلى حد هذا المقام فإن الأمر عادي وعلى ذلك سارت جل الدول الحديثة، غير أن المغرب لم يسلك، لحد الآن، نهج بعض هذه الدول في وضع سقف زمني معين لاستصدار كافة النصوص التطبيقية للقوانين، على غرار ما هو معمول به في الكثير من الأنظمة السياسية. إذ ليس لنا في التشريع المغربي، على حد علمي، نص معين يلزم السلطة التنفيذية، بسقف زمني معين لاستصدار كافة النصوص التنفيذية المطبِّقة، أو التطبيقية، للقوانين التي استنفذت المسطرة التشريعية وتم استصدارها، عدا ما يرد في بعض مواد ذات القوانين، والتي تضع أجلا محددا لدخول بعض مقتضياتها حيز التنفيذ باستصدار النصوص التنفيذية اللازمة لتنزيل مقتضيات النص القانوني. هذا الوضع هو الذي يمكِّن السلطة التنفيذية من سلطة إضافية تضاعف بها كل آليات العقلنة البرلمانية، قد تصل أحيانا حد تعطيل إرادة المشرع نفسها، باعتباره ممثلا للأمة.
إن خطورة هذه الوضعية تتجلى بالأساس في عدم تقييد الحكومة بسقف زمني محدد لاستصدار كافة النصوص التنظيمية بوضع سقف زمني كقاعدة قانونية عامة؛ وهو ما يعطل إرادة المشرع باعتباره ممثل الأمة، وباعتبار “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة”، كما يقر بذلك الفصل السادس من الدستور. إذ يصبح القانون في حكم المعدم ما لم تصدر نصوصه التطبيقية. وهو ما ظل تشتكي منه ممثلات وممثلو الأمة منذ عقود دون أن يجد طريقه إلى الحل. فهل يدخل بدوره في العقلنة البرلمانية غير المحدودة؟ هل يحق لأي كان، بما فيها السلطة التنفيذية، تعطيل هذه الإرادة، خارج الضوابط الدستورية، بالامتناع عن إصدار النصوص التنفيذية مع بربط تفعيل وتنزيل النصوص التشريعية/القانونية بإخراج نص تنظيمي معين؟
تقول المادة 22 من القانون التنظيمي 065.13 “تطبيقا لأحكام الفصل 89 من الدستور، تعمل الحكومة على إصدار النصوص اللازمة من أجل التطبيق الكامل للقوانين بعد نشرها في الجريدة الرسمية، كما تعمل على ضمان تنفيذ هذه القوانين، وتتخذ من أجل ذلك جميع التدابير الضرورية”. ولقد كان حريا بالمشرع أن يضمِّن هذه المادة سقفا زمنيا مقيِّدا للحكومة في إخراجها لكل النصوص التنفيذية للقوانين، نتمنى أن ينتبه إليها البرلمانيون بتقديم مقترح قانون تنظيمي معدل لها.
إن هذا الفراغ القانوني يعطي للسلطة التنفيذية اليد الطولى للتحكم في التشريع، وذلك على أساسين:
أولهما قد تعدم الحكومة نص التشريع كلية أو جزئيا، حسب إرادتها، حينما تعمل على إهمال استصدار النصوص التطبيقية لمدة قد تطول أو تقصر حسب رغبتها، وقد تتغافل عنها قطعا. ولنا نماذج في ذلك كثيرة، أكتفي بذكر بعضها كما يعرفها الجميع من غير أن تثير حفيظة صناع القرار ببلادنا:
القانون رقم 01.00 المتعلق بتنظيم التعليم العالي الصادر الأمر بتنفيذه بالظهير الشريف رقم 1.00.199 صادر في 15 من صفر 1421 ( 19 ماي 2000 )، هذا القانون ، ورغم صدوره منذ سنة 2000 مشيرا إلى مجموعة من النصوص التنظيمية الكفيلة بتنزيل بعض مقتضياته، إلا أن هذه النصوص التنظيمية لم تصدر رغم مرور أزيد من 18 سنة. وخير مثال ما جاء في الفقرة الأولى من المادة 17، التي تقول “يحدد بمرسوم النظام الأساسي لمستخدمي الجامعات وكذا نظام التعويضات المخولة لهم”. وعلى حد علمي، فإنه لم يصدر لحد الآن.
وكذلك المادة 48 التي تقول “وإذا حدثت قوة قاهرة خلال السنة الجامعية حالت دون استمرار مالك المؤسسة في العمل لمواصلة نشاطها ، وجب عليه إشعار الإدارة فورا بذلك لتتولى وفق الشروط المحددة بنص تنظيمي تسيير هذه المؤسسة بالموارد الخاصة بها والموارد المنصوص عليها في المادة 49 بعده. ويجب أن يشعر كذلك التلاميذ أو الطلبة وأولياءهم بالإغلاق المذكور في الوقت المناسب.”
ونفس الشيء في المادة 60 الفقرة الثانية التي تقول :” تحدد بنص تنظيمي الشروط والكيفيات التي يتم بموجبها الترخيص لطلبة مؤسسات التعليم العالي الخاص المعترف بها اجتياز المباريات والامتحانات المماثلة لتخصصهم في مؤسسات التعليم العالي العام وولوج أسلاكها.” وهو أمر على جانب كبير من الأهمية، يمكن أن تستفيد منه شريحة واسعة من المواطنات والمواطنين إلى جانب مؤسسات التعليم العالي ببلادنا.
وهكذا فإن هذا القانون على أهميته والصادر منذ سنة 2000، أي قبل 18 سنة كاملة مكمولة، فإن أزيد من 5 مقتضيات منه لم تعرف طريقها إلى التنزيل بسبب تأخر استصدار النصوص التنظيمية الكفيلة بتنزيلها. ولست أعرف كيف يمكن تدبير هذه المجالات في غياب هذه النصوص، وبالتالي يحق لنا التساؤل عن مدى تنزيل إرادة المشرع باعتباره حامل البرنامج الحكومي المصوت عليه من طرف الأمة.
إلى جانب هذا القانون هناك الكثير من المقتضيات في العديد من القوانين التي تغافلت السلطة التنفيذية على استصدارها، ودون أن تكلف نفسها تبرير ذلك أمام السلطة التشريعية( مثل قانون رقم 02.13 يتعلق بزجر الغش في الامتحانات المدرسية، القانون التنظيمي 065.13 يتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها.. الخ).
ثانيهما ما دام ان لا شيء يلزم الحكومة باستصدار هذه النصوص التطبيقية فإن الأمانة العامة للحكومة، الجهاز الوصي على المنظومة القانونية لبلادنا، تجد صعوبة في ملاحقة ومراقبة النصوص التطبيقية التي جرى إهمالها قصدا وعمدا أو تلك التي سقطت سهوا أو لسبب من أسباب اكراهات التطبيق والتنزيل، والتي يجب أن تقدم حولها الحكومات البيانات والإفادات للسلطة التشريعية، وذلك لتفادي كل استغلال من طرف اللوبيات الإدارية التي تستغل مواقعها لتقديم خدمات جلى، من حيث تدري أو لا تدري، لبؤر الفساد والاستغلال.
لماذا تستعصي علينا التجربة الفرنسية
منظومتنا القانونية تكاد تكون صورة انعكاس للمنظومة القانونية الفرنسية، غير أن الفرنسيين حلوا المشكل منذ زمن طويل. وحسب “دليل الصياغة” في طبعته الثالثة، المحينة سنة 2017، والذي وضعته الأمانة العامة للحكومة الفرنسية بشراكة مع مجلس الدولة الفرنسي، والمنشور على الموقع Légifrance ، جاء فيه ضمن محور “إعداد النصوص” في الفقرة المتعلقة بـ”النصوص التطبيقية للقوانين” أن: “النصوص التطبيقية للقوانين(المراسيم، القرارات ، خاصة الاتفاقيات، القرارات الفردية) يجب اتخاذها داخل أجل ستة أشهر كحد أقصى. إن احترام هذا الأجل يقتضي إعدادها في نفس وقت إعداد مشروع القانون ذاته” ويمكن إثارة مسؤولية الدولة في حالة عدم صدور المراسيم التنفيذية في الأجل المعقول” ص 209.
وتحت عنوان “مراقبة تطبيق القوانين بالبرلمان” أحالت ذات الوثيقة على المادة 67 من القانون رقم 1343/2004 الصادر 2004 والمتعلق بـ”تبسيط القانون” والتي تقول: “في أفق أجل ستة أشهر التي تلي دخول قانون حيز التنفيذ، تقدم الحكومة للبرلمان تقريرا عن إجراءات تطبيق هذا القانون. هذا التقرير يذكر بالنصوص التطبيقية المنشورة والمذكرات المرسلة من أجل تنزيل القانون المعني، وكذلك عند الاقتضاء، المقتضيات التي لم تكن موضوع النصوص التطبيقية اللازمة مع ذكر الأسباب”. كما أقر هذا الدليل أن الحكومة ملزمة بهذه الآجال تحت طائلة المسؤولية السياسية كما كرسها المجلس الدستوري الفرنسي في بعض قراراته.
كما يتولى مقرر النص بالجمعية الوطنية الفرنسية تقديم تقرير عن تطبيق القانون(دراسة الأثر) بعد مرور ستة أشهر على دخول النص حيز التنفيذ، وعند عدم تحضيره في ذات الأجل، تمنح اللجنة أجلا جديدا يمتد لستة أشهر أخرى لإعداد التقرير.
كما يتم تقديم تقرير، يقدم لندوة الرؤساء بمجلس الشيوخ الفرنسي كل سنة، حول تطبيق القوانين وملاحظات اللجنة المعنية على أن ينشر أمام العموم.
ثم إن القضاء الفرنسي يقر بمسؤولية الدولة عن عدم اتخاذ المراسيم التطبيقية في الآجال المحددة سلفا.
ويضمن التشريع الفرنسي كذلك الجدولة الزمنية لإعداد جميع المراسيم التطبيقية ومتابعة إعدادها من خلال تكليف الأمانة العامة بمراسلة الوزارات المعنية من أجل تحديد لائحة النصوص التطبيقية و الجدولة الزمنية المتوقعة لإنجازها .
كل ذلك من أجل ضمان تنزيل مقتضيات النص القانوني تنزيلا مناسبا ومتابعة أثره على مستوى انسجام المنظومة القانونية فيما بين مكوناتها، واستدراك ما قد يعتري التطبيق من اختلالات، كما أنه يحرر السلطة التشريعية من أن تظل رهينة بإرادة السلطة التنفيذية كما الحال في المغرب.