جريدة رقمية مغربية
متجددة على مدار الساعة
اشهار ANAPEC 120×600
اشهار ANAPEC 120×600

العلوم الإنسانية هي الحل

 

بقلم أستاذ الفلسفة : حميد الشرقاوي

أعترف أنني من بلاد عربية مغربية متخلفة الهوية والوجود. بلد يسوِق نفسه رخيصا لمستهلك هالك، يستعمر التراب والنسب والفكر.. أعترف أنني من بلد باع تعليمه بثمن بخس وبعهود خارجية لا أساس داخلي لها، باع ذاته حيا وهو في حاجة إلى ذاته، باع أمه-باع وطنه.. بهذا نكون أمام قولة ماثلة في الذهن لرجل التقيته في ندوة ” عن الهوية والسياسة بمدينة مراكش ” ، قال:” خذوا كل الهويات  وعطوني كرامة”.

أظن أن العرب في أمس الحاجة إلى الإنسان، إلى فهم معنى الإنسان أو ما يسميه الفلاسفة ” ما الإنسان”؟ لكي لا نصادر على المطلوب ونقول ‘ بموت الإنسان’.

قد نختلف في فهم أي قضية مرتبطة بالعلوم الإنسانية، لكن فهمنا لوجودية العلوم الإنسانية واستحضارها الدائم كحل لمشاكل عالقة منذ القدم أمر ضروري ولا غبار عليه ولا نقاش حوله. إنه مربط الفرس، نقطة التحول.

علينا أن نعيد التأسيس لمفهوم الإنسان، أن نفكر جديا ومن جديد في معنى الإنسان، أن نفهم لماذا الإنسان ومعنى إنسانية الإنسان؟ وهنا، الدعوة موجهة لأهل الاختصاص لإعادة النظر في المناهج والبرامج التعليمية اعتمادا على رؤية تربوية بيداغوجية قصد إعادة الاعتبار للإنسان.

إذا تأملنا واقعنا التعليمي، سنجد أنه منكب على الاهتمام بالمواد العلمية ” الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء.. ” وما هذا الاهتمام إلا فخ وقعنا فيه بقصد أو بغير قصد. فخ مفكر فيه، لأننا حتى وإن قرأنا الرياضيات.. كما هي، ستكون رياضيات عرجاء لأن أساسها مهضوم وتدريسها ملغوم ووجودها يحتاج لإعادة النظر، لكونها لا تنتج إلا العقول التمارينية. علينا، ونحن في القرن 21 م أن نفكر في الإنسان وفقط الإنسان، أن نهتم بالعلوم الإنسانية (علم الإجتماع، علم النفس، الجنس، علوم التربية..)الفلسفات، فبدونها لابد أن نترحم على التعليم ونصلي جنازته، وبها نستطيع أن نقيم في الحداثة بالمعنى الحقيقي للحداثة.

لا يصح الكلام عن الحداثة في ظل وجود مؤامرة على التعليم، وكأنهم يريدون إفساد عقول الشباب وإفراغها  لإعادة إنتاج reproduction عقول وفق ما أراد السياسي =(ويبين هذا الأمر بيير بورديو في كتابه الذي يحمل نفس العنوان ” إعادة الإنتاج” وكتاب الورثة،عندما يحدد تعريفا للمدرسة على أنها تقوم بالتوزيع الغير العادل للخيرات الرمزية، وتنتج نفس علاقات وقوى الإنتاج) … ولعل قصص الأباء مع أبنائهم دليل على الفهم الخاطئ الشائع بين عامة الناس وهذا ما يجب أن ينمحي. فالأب، وبمجرد ما أن يتحصل ابنه على الشهادة الإعدادية يأمره بأن يختار العلوم على حساب الآداب، بل أن يختار العلوم الرياضية أوالفيزيائية بدل الآداب بأكملها، حتى وإن كان الابن له ميول آدابي. فكيف تنسون المعري و ابن شداد و المتنبي و متى بن يونس والصرافي وأبوحيان التوحيدي وابن المقفع وابن كثير و ابن رشد والغزالي وابن عربي… هذا النسيان _ الإغفال لا يمكن أن يكون سوى خطأ، خطأ معرفي، خطأ تربوي، خطأ وجودي، خطأ اجتماعي وسياسي.. لهذا قلنا يجب إعادة النظر في المناهج والبرامج معتمدين في ذلك على علوم التربية والبيداغوجيا وفلسفة التربية… وكل ما من شأنه أن يحل هذا الإشكال.

لنتذكر أسباب قيام الثورات في أروبا على الأقل من مطلع القرن 19 م، دون أن ننسى الثورة الكوبرنيكية و أفكار غاليلو وكيبلر وديكارت وسبينوزا ونيوتن وأخرون.. هذا إذا ما أردنا أن نفهم عمق القضية ” أ نحن بحاجة إلى العلوم التجريبية أم العلوم الإنسانية؟ ”. لنتذكر الثورات الأروبية أو ما يسميها البعض ” ربيع الشعوب” 1848، هذا الربيع الذي بدأ من فرنسا ليؤثر على أكثر من 50 دولة مطالبة بالديمقراطية على حساب الاقطاعية، مدافعة على ضرورة حضور ومشاركة الأغلبية في الحكومة والقيادة السياسية. هذا إلى جانب الثورة الصينية التي دامت لخمس سنوات إثر مشاكل سياسية معقدة سنة 1945_ 1950. ثم الثورة الصناعية التي كان لها عدة نتائج على النطاقين الثقافي والسياسي. أولا، المستوى السياسي: فقد أدت الثورة الصناعية إلى :
*تطبيق المبادئ الدستورية التي منحت للعمال والنساء حق الانتخاب
*بروز أحزاب سياسية تدافع عن مصالح العمال وتشارك في الحياة السياسية…
أما المستوى الثقافي، فقد رافقت الثورة الصناعية نهضة ثقافية كبيرة كان من ثمارها الإيمان بقدرة العقل البشري وما بإمكانه تحقيقه وبأهمية العلم والتقدم. وقد نشطت الحياة الثقافية عبر مراكزها التي انتشرت في كل مكان من أوروبا. وأثرت المدينة على حياة الفرد الذي أخذ ينهل مما توفر له من أسباب التعلم والثقافة. فأسهم ذلك في رفع مستوى الوعي ومعرفة الواقع.
هذا إلى جانب ظهور الحركة الإنسية وما قدمته للإنسانية.
هذه بعض الثورات التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في بروز دول متقدمة على حساب دول أخرى. لكن لا يمكننا أن نتحدث عن هذه الثورات دون ذكر أهمية الإنسان كذات وموضوع ومستفيد في هذه الثورة، حيث أنها ثورة لأجل الإنسان. ثورة تنتصر للإنسان على حساب اللا إنسان.
علينا أن نعيد الاعتبار لأنفسنا، نفكر في أنفسنا، في ذواتنا. لعل قولة ديكارت ” أنا أفكر، إذن أنا موجود”خير ما نقيس به الموضوع المدروس، فالأنا المفكرة sujet pensant لا يمكنها أن تكون كذلك دون وجود الأنا التي تفعل الفكر ليصبح الفكر دلالة على الأنا، دلالة على الوجود. ودون الأنا وتربيتها على التفكير والنقد والتحليل والمساءلة والشك.. يتبخر الفكر ويندثر الوجود وينمحي الإنسان وتسقط الهوية،أنذاك يقال عن البلد ” ” كانت” ”.
ومنه، ولكي أنهي الكلمة أقول ” اليوم، نحن لسنا بحاجة إلى العلوم التجرببية، نحن في أمس الحاجة إلى العلوم الإنسانية وعندما تتحقق معرفتنا بها نستطيع أن ننخرط جديا في العلوم الحقة”.

البلد الذي لا يحترم نفسه لا يمكنه أن يحترم.

تعليق 1
  1. رشيد بنويجم يقول

    جميل أن ننظر للعلوم الإنسانية كفهم للإنسان وإشكالاته الحديثة ولكن لا تبخس دور العلوم الحقة لأنها هي التي أسست للعلوم الإنسانية وبمعية الفلسفة طبعا مقال جميل يشجع على التفاعل.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.