عبد الغني سلامة … بماذا نؤمن؟ ولماذا؟
عبد الغني سلامة
بصورة عامة، الأفكار والمعتقدات التي نؤمن بها، آمنا بها ليس لأنها صحيحة (وهذا لا يعني أنها خاطئة)؛ بل فعلنا ذلك ببساطة، لأننا نشأنا عليها، وتربينا عليها، ولأنها أول أفكار سمعنا بها.. وفي المقابل، نرفض تصديق أي أفكار أخرى، ليس لأنها خاطئة (قد تكون خاطئة بالفعل)، ولكننا نرفضها لأنها من الغير، ولأنها تخالف ما نعتقد به.
وهنا لا أتحدث عن المعتقد الديني، بل الأفكار الأخرى والقيم والعادات والأمثال الشعبية، والقصص التي نصدقها، والأقاويل التي نرددها.. وهذا ينسحب حتى على المأكولات، فكل شخص يعتقد أنَّ أشهى وأطيب الأطباق تلك التي تعدها أمه، وهذا إحساس صادق، ليس لأن أمه طباخة عظيمة، بل لأن الطبق الذي أحبه، تذوقه لأول مرة كان من إعداد أمه.
وأيضاً، نحب شخصا ما، خاصة المشاهير والقيادات والزعامات الوطنية والدينية، نحبهم ليس لأنهم أبطال بالفعل، أو أناس خارقون، أو لأنهم نزيهون وصادقون (قد يكونون كذلك).. نحبهم ونؤيدهم فقط لأنهم من جماعتنا، من نفس العشيرة، أو من نفس الطائفة والمذهب، أو من نفس الحزب والتيار السياسي.. ونعادي الآخرين لنفس السبب.. لأنهم من خارج المجموعة التي ننتمي إليها.. وبعد ذلك، يأتي دور التبرير والتصديق والتسامح مع الأخطاء التي تصدر عنهم.. أو تصيّد الأخطاء، وتضخيمها، وعدم التساهل معها.. إذا كانت من الخصوم.
أما الإجابات عن الأسئلة التي حيرتنا صغاراً؛ فهي التي ستشكل ثقافتنا وشخصيتنا الفكرية، وتوجهاتنا العامة.. وهذه كانت إجابات الوالدين.. وهي انعكاس لثقافتهما التي ورثاها عن أبويهما، والتي سنبني عليها بعد ذلك كل تصوراتنا عن الحياة.
ما يعني أن شخصية الفرد تتكون وفقاً لمؤثرات لا دخل له فيها؛ فمنذ ولادته تتحدد ديانته وقوميته وبيئته الاجتماعية، وفي طفولته المبكرة يحدد له الأهل والمجتمع المعايير والنظم التي ستشكل أفكاره وقيمه ومفاهيمه، وهذه كلها تتم دون استشارته أو أخذ موافقته، وبالتالي ستصبح أفكاره ومعتقداته عبارة عن منتوج ما فكر به وقاله الآخرون له، أي أن حزمة المعتقدات التي آمن بها إنما هي ما تم إيداعه في عقله رغما عنه وبطريقة التلقين (وهذا يشمل معايير الصواب والخطأ، والعيب والحرام، ومن هم جماعته، ومن هم أعداؤه..) ، والإنسان عادة لا يتساءل بعد ذلك عن مدى صحة ما يعتقد، ولا يراجعه، ولا يخضعه لأي قراءة نقدية، بل إنه يستريح لتلك المعتقدات، لأنها منسجمة مع ما يؤمن به المحيط من حوله، ولأنها باتت من البديهيات التي لا يتوقف عندها أحد.
وعادة، عندما يجابه الفرد أفكاراً جديدة، مخالفة لمعتقده، ولأحكامه المسبقة، ستعمل لديه آلياً ميكانزمات الدفاع الغريزي؛ فيكذبها ويرفضها أولاً، ثم يشكك بها وبمصدرها، وأخيرا يبدأ بالتبرير والتأويل.
يُقال إن كشف الكذبات الصغيرة أمر سهل، وإن كشف الكذبات الكبيرة أصعب.. حتى لو كانت شديدة الوضوح (مثل الأساطير).. وكلما كانت الكذبة أكبر، ومضى عليها زمن أطول، تتحول إلى حقيقة، يصعب التشكيك بها، بل قد تصبح تابو مقدساً..
لذلك، كل ملة، وكل طائفة، مهما صغر شأنها أو كبر، تعتبر نفسها الأصح، وتؤمن بصورة قطعية أنها صاحبة العقيدة الصحيحة، وأنها ممثلة السماء في الأرض، وأن مرجعها الأعلى قال الحقيقة النهائية… وتعتبر الملل والطوائف الأخرى منحرفة، وضالة.. وهذه التصورات والأحكام يرثها كل فرد من الطائفة، ومع ذلك، سيعتقد أنه توصل إليها بذكائه ومعرفته وحكمته..
والسؤال، كيف حصل ذلك؟
الإنسان كائن اجتماعي، لا يمكن أن يعيش خارج جماعة يرتبط بها بعلاقات متبادلة متعدّدة؛ الجماعة توفر له سبل العيش، وتلبي احتياجاته ومتطلّباته الأساسية، والفرد بدوره يقدم لجماعته خدمات الانتماء والانصياع لقانونها العام.
ولا يتوقف الأمر عند الاحتياجات المادية؛ بل يمتد ليشمل الأفكار والمعتقدات؛ لذلك فإنّ الفرد يستمد أفكاره من بيئته، ضمن علاقات التأثر والتأثير، وهذا ما يدعى بثقافة القطيع؛ وهي التي ستحدد طبيعة سلوك الفرد في إطار الجماعة، حيث تتحول تصرفاته من تصرفات فردية مستقلة مبنيّة على التخطيط، والعقلانيّة إلى تصرفات متأثرة بسلوك هذه الجماعة، ما يؤدي إلى انصهار شخصيته وتوحدها في شخصية الجماعة، وبالتالي تخليه عن صفاته الأولى لصالح صفات أخرى متماهية تماماً مع صفات الجماعة.
وهذا يؤدي إلى إنتاج أفراد متشابهين إلى حدٍّ بعيد، يكوّنون فيما بينهم قطيعاً، حتى لو أدى ذلك إلى تفريغ البعد الإنساني للفرد، وتغييبه للعقل والمنطق والضمير، فقط لإرضاء قطيعه.
لذلك، فإن أولى وظائف الجماعة إنتاج أفراد متماثلين معها، ومنسجمين مع خطها العام (من خلال الأسرة، والتعليم، وتشريب العادات والقيم، وتجديدها مع كل جيل).. أي تمديد ثقافة الجماعة، وتوريثها والحفاظ عليها.. ونادراً ما يمتلك الفرد شجاعة الخروج عن الجماعة، أو تجاوز ما هو مألوف.
وحدهم الأشخاص الذين استطاعوا إحداث التغييرات الجوهريّة عبر التاريخ الإنساني، هم أولئك الذين تمردوا على جماعاتهم، واحتفظوا بهويتهم الفردية، وبقدرتهم على التفكير المنطقي، والعقلاني، وهؤلاء قد ينجحون بقيادة الجماهير، فيتحولون إلى قادة وزعماء، وقد ينبذهم المجتمع، ويرفضهم.. وبالطبع ليس كل هؤلاء خيرين، فمنهم الأشرار..
لا تظن أنك دوما على صواب، وأن خصمك دوما على خطأ.. ولا تمتلئ باليقين، لأنك ستظل غارقاً في الوهم (الجميل)..