جريدة رقمية مغربية
متجددة على مدار الساعة
اشهار ANAPEC 120×600
اشهار ANAPEC 120×600

الأستاذ الرياحي:” وقفة المحامين أكبر من إفراغ مكتب و أجل من تبليغ رسالة و أعظم من وقفة في شمس كورونا

بقلم الأستاذ : نور الدين الرياحي

إن وقفة المحامين أكبر من افراغ مكتب وأجلّ من تبليغ رسالة وأعظم من وقفة في شمس كورونا، إنها محطة في التاريخ القضائي لها ما قبلها وبعدها.
ينبغي التمعن جيدا فيها وأخذ العبرة منها ومعالجة مطالبها بالسرعة والجدية المطلوبة، والانكباب على مشاكلها وإيجاد حلول عاجلة ومسؤولة لها، كشريكة مسؤولة عن الأمن القضائي للمملكة و إعادة الاعتبار لها ، فهي التي شرفها الملك محمد السادس بارتداء بذلتها التي أصبحت صورته في كل مكتب من مكاتبها رمزا من رموز الحماية الملكية لها .
وهي التي قال عنها المغفور له الملك الحسن الثاني الذي كان يتمنى لو لم يكن ملكا أن يكون محاميا :
“إن مسؤولية المحامي لا تقلّ عن مسؤولية القاضي، في الحفاظ على مقومات العدالة، و إن حرمتها من شأنها أن تصون المواطن العربي، و تحمي حريته، و تؤمن حقوقه، وتمنع عنه غوائل الظلم، بجميع أشكاله وأنواعه، في هدي المثل العليا ، لمهنة المحاماة ، الزاخر رصيدها بتقاليد راسخة ، و أعراف عريقة ، أثرت الفكر الإنساني بعطاء وافر من المبادرات الرائدة و المواقف الصامدة ، و المبادئ القيمة التي ظلت عبر الحقب و العصور،  وفي مختلف البقاع والأمصار مثالا يحتذى في رفع المظالم ، وجلب المكارم ، وميضا لا يحبوا اشعاعه ، ولا تنطفئ شعلته دفاعا عن الحق والمقدسات وحماية للمؤسسات ، ودرعا واقيا من كل مساس بالأسس و المكتسبات “(من الرسالة الملكية إلى المؤتمر الثامن عشر لاتحاد المحامين العرب المنعقد بالدار البيضاء ايام 20 ،23 ماي 1993 ).
و هي التي قال عنها الملك المغفور له محمد الخامس :
يوم الثلاثاء 02/10/1956 بمناسبة تدشين دورة 1956-1957 لمحكمة الاستئناف العصرية بالرباط:
” … و كذلك يطيب لنا أن ننوه برجال هيأة المحاماة الذين يشاركون باجتهادهم واستنتاجاتهم بنصيب ملحوظ في بناء صرح العدل.
وإننا نحن مقبلون على الإصلاح العدلي الذي ذكرنا نود أن نطمئن هؤلاء وأولئك على أنهم يجدون من دولتنا كل عون وتأييد وإن مملكتنا جريا على تقاليدنا العريقة في إكرام ضيوفنا سوف لا تألوا جهدا في إعزاز شأنهم و إحاطتهم بجميع أنواع التوفير و الإحترام “.
فماذا وقع في الدار البيضاء لينتفض الآلاف من رجالاتها ونسائها ونقبائها وقيدوميها شبابا وشيوخا في جمعة حارقة في زمن كرونا، ربما في أكبر وقفة وطنية إن لم نقل عالمية في العصر الحاضر ؟ لربما لم تبلغ وقفة عدد الآلاف من المحامين ببذلهم في الكرة الأرضية يوما هذا العدد .
و ماذا أصاب حرمتها و توقيرها الذي ضمنه لها ملوك المغرب الضامنين لعدالة رعاياهم؟
و ماذا دفع نقباؤها إلى توجيه رسائل مباشرة عن أوضاعها دق ناقوس الخطر منذ اجتاحت هذه الجائحة بلادنا؟
انه لا يمكن تصور عدالة قوية و نزيهة وكفأة بدون رسالة محترمة للمحامي، ولا يمكن لهذا الأخير أن يعتبر ما يقوم به مجرد حماية مهنة بل هو انخراط في رسالة وقيم لا يفصلها عن عدالة السماء إلا مشيئة الله الذي حرّم الظلم على نفسه وحمّل مسؤولية الدفاع عنه لرجال مهنتها أمام مجلس القضاء الدنيوي قبل المحاسبة على الأمانة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
لماذا اهتزت منابر المحامين في جميع النقابات اهتزاز رجل واحد ؟
لماذا اعتبر المحامون بأن وقفتهم يجب أن تجرى و في أقرب وقت و ضحّوا بحياتهم في زمن كورونا واعتبروها هيّنة أمام المصاب الجلل الذي جسدته الواقعة ؟
لماذا جاءت الوقفة تلقائية كأنها دفاع مقدس على بذلتهم استلذوا بها الموت دفاعا على الكرامة ؟
فكأنها اللغة العربية تبسط شكايتها على لسان حافظ إبراهيم :
إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ
بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي
فإمّا حَياة ٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى
وتُنبِتُ في تلك الرُّمُوسِ رُفاتي
وإمّا مَماتٌ لا قيامَة َ بَعدَهُ
مماتٌ لَعَمْرِي لمْ يُقَسْ بممات
فممات المحاماة لا قيامة بعده ولا يجرؤ أي أحد على تصوره لأنه موت عدالة بكاملها .
كيف يمكن تصور مهنة اختيرت رجالاتها من الحاج أحمد زروق أول محامي ووكيل عام للملك في المغرب كما هو مكتوب على قبره في مقبرة الشهداء في الدارالبيضاء إلى المعطي بوعبيد وصولا إلى عبد الرحمان اليوسفي ثمّ عبد الرحمان الخطيب إلى امحمد بوستة إلى عبد الفادر بن جلون ورضااجديرة إلى الطيب الناصري  ومحمد بوزبع ثمّ عمر عزيمان، ومنه إلى مصطفى الرميد للنيابة على ملوك المغرب في ترؤس المؤسسة الدستورية للمجلس الأعلى للقضاء وتعيين القضاة وترقيتهم و الإشراف على العدالة وترؤس أمورها والتصرف في ميزانيتها والقيام بإصلاحها وتعيينهم وزراء وولاة وعمال وقضاة، أن تجد نفسها واقفة وحيدة اليوم فقط ببذلتها في حرّ الشمس وهي تُجسّد تاريخا لهذه الأسماء .
لقد حكى لي المرحوم الأستاذ محمد التّبر يوما في منزلي أن قاضي التحقيق المرحوم عبد المجيد بن جلون قبل أن يصبح وزيرا للإعلام ووكيلا عاما لدى المجلس الاعلى وهو يحقّق في قضية أمن دولة استدعاه للاستماع اإيه حول أحد العقود التي حررها في مكتبه، و ان قضاء التحقيق بصدد توجيه تهمة إليه وطلب منه الانتظار للبت في مصير حريته ، فناداه المرحوم عبد المجيد بن جلون قائلا :
لما بلغ إلى علم جلالته بأنك سوف تكون مع المتابعين اعترض على ذلك لأنك محاميا مقتدرا وقال جلالته :
هلا تركتم لهؤلاء المتهمين محاميا بارزا يدافع عنهم لضمان محاكمة عادلة ؟
وفعلا نصّب ذ محمد التبر ضمن هيئة الدفاع آنذاك على المتهمين .

كيف لمهنة كانت دائما في مقدمة القضايا الوطنية المصيرية حاضرة للدفاع عن وحدثنا الترابية ومجالس القضاء وثوابت الأمة والمساهمة في كلّ المناسبات بالغالي والنفيس آخرها ما ساهمت به صناديقها المتواضعة بمبالغ فوق طاقتها لتُعبّر عن تضامنها مع قضايا المواطن والحذو حذو قائد البلاد ومتشبعة بسنته ، وتجندت مضحية بحياتها في قاعات المحاكم وردهات السجون ودهاليز المخافر للتشبث بضمان المحاكمة العادلة و إعانة السلطة القضائية والحكومة على إيجاد حلول في التغلب على هذه الجائحة اللعينة أن تقف وقفة مظلوم وهي التي حمت المظلومين ولم تتكالب يوما ما عن دورها في القيام بواجبها حتى في أحلك الظروف ؟

لقد دافعت عن الوزراء والقضاة والصحافيين ورجال الأمن والسياسيين  ورجال السلطة  وجميع طبقات المجتمع دون أن يغمض لها جفن أو أن تتقاعس عن القيام بمهمتها ولو قيد أنملة؟
لقد شاءت وشاء لها قدرها اليوم أن تكابد جروحا ألمّت بها من جراء قيامها بهذه المهام النبيلة جروح لا يد لها فيها، ومع ذلك صبرت عن آلامها وصبر شبابها وشيوخها على نزيف دمائها، آملا في إرجاع الأمور إلى نصابها ، لكن أن تعمّق هذه الجروح بقصد أو دون قصد  كان لابد لها أن تنتصر في المعركة لحقها وأن تطالب به، فالكلّ اليوم مطالب بالمساهمة في الوقوف بجانبها، وحذاري ثم حذاري أن نترك من ساندنا يوما في المعركة وضحّى بحياته وماله ووقته وعلمه وحيدا في ساحة المعركة لأن ذلك سيكون جُبنا، فالجبان يموت عدة مرات قبل أجله، أما الشجاع فلا يموت إلا مرة واحدة كما قال شكسبير ، فحذار من موتة المحاماة وجبن المدينين لها لأنها أعطت ولم تأخذ وضحّت  لم تطلب المقابل وترافعت دائمآ عن المقابل،  إنه وقت الاعتراف بالجميل وردّ الدّين لرسالتها النبيلة ولرجالها ونسائها العظام .
و لمن لا يعرف الأستاذ الطالبي الحسين الذي انتهكت حرمة مكتبه فانبثقت بسبب ذلك شرارة انتفاضة المحامين .
عرفت الأستاذ الطالبي الحسين عندما التحقت بالقضاء الواقف سنة 1979 بمحكمة الدار البيضاء عندما كانت محكمة موحدة وكان قيدومي في النيابة العامة .
وقد اختارني لأتقاسم معه المكتب رغم صغر سني وشرّفني بذلك وأنا قاضي مبتدئ .
كان في عنفوان شبابه المهني قاضيا معتزا بكرامته واستقلالية قراراته.
حدث أن عيّن المرحوم المكي نوشريف وكيلا عاما باستئنافية الدار البيضاء عقب وفاة مفاجئة للوكيل العام السابق لدى محكمة الاستئناف المرحوم الطيب الشرفي ، واقتضت المصلحة العامة أن يصطحب المرحوم المكي نوشريف مجموعة من نوابه إلى محكمة الاستئناف لتشبيبها و ترك المجموعة الأخرى لتأطير النواب الجدد و كان من بينهم الاستاذ الطالبي الحسين المعروف بتكوينه العميق في مجال كتابة الضبط لكونه كان منتديا قضائيا قبل التحاقه بالقضاء فنائبا لوكيل الملك مع مجموعة من جهابذة القضاء الواقف أمثال الاستاذ مصطفى مداح الذي سيصبح وكيلا عاما لمحكمة النقض و الأستاذ مولاي التهامي المتواضع والأستاذ سعيد الياسيني والأستاذ الطيب أنجار رئيس الغرفة الجنائية الأولى، والأستاذ الطيب الشرقاوي الذي سيصبح وزيرا للداخلية و الأستاذ المرحوم الحنفي عبد الله ،والأستاذ المرحوم أمنزول محمد والأستاذ أبو بشر عبد الرحمان، و الأستاذ محمد زهران، والأستاذ جلال مصطفى، والمرحوم الأستاذ الزواغي مصطفى، والأستاذ الطيب الأزرق والأستاذ صلاح عبد الرزاق، والأستاذة عتيقة السنتيسي والأستاذة المرحومة آسية الوديع و لأستاذة المرحومة زينب شوقي، والأستاذة آمنة الجيراري، والأستاذة فتحي الإدريسي والأستاذة الفاسي الفهري سلوى ومجموعة من القضاة والقاضيات، ومجموعة من النقباء والمحامين الذين عاصروا هذا الرعيل أمثال الأستاذ عبد العزيز بن زاكور والنقيب المرحوم الأستاذ الطيب الناصري والأستاذ النقيب إبراهيم السملالي والأستاذ النقيب عبد الله درميش ، والأستاذ النقيب محمد الشهبي والأستاذ الطيب البواب، والأستاذ باكو  والنقيب، والأستاذ محمد حسي الذي كان يرتوي من معين هذه المدرسة رفقة النقيب  الأستاذ ودرا،  والأستاذ موافق الطاهر والأستاذ صبري والأستاذ ضرغام، والأستاذ محاسني، وغيرهم من الزملاء والزميلات من القضاة والمحامين، ما بين سبعينات القرن الماضي وثمانينياته، وكانت المحكمة الابتدائية يترأسها الفقيه العلامة الأستاذ امحمد بناني بمعية نوابه الأساتذة عبد العزيز توفيق والأستاذ العبادي و الأستاذ سعيد بناني وفقيه مسطرة الشغل الأستاذ مولاي يوسف الإدريس، والأستاذ مولاي أحمد العلمي فقيه الأحوال الشخصية، واالأستاذ عبد السلام المنصوري قاضي القاصرين، والأستاذ عبد السلام الدقيوق، والأستاذ التجاني بنفس القسم و الأستاذ احدية محمد والأستاذ أحمد الحراث، والأستاذ واعزيز محمد، والأستاذ حسن بن عيش والأستاذ بوجيدة عبدالله والأستاذ الطلفي رئيس غرفة الجنايات والأستاذ بوبكر البودي، والأستاذ عبد اللطيف مشبال، والأستاذة المديني والأستاذة رشد، والأستاذة فوزية هروس، ومجموعة من القضاة  القاضيات الذين كانوا يقومون بأعباء هذه المحكمة مع كتابة ضبط في النيابة العامة يترأسها المرحوم النتيفي والأستاذ السنتيسي، والأستاذ كوكب والأستاذ حاجب والأستاذ هاجر في قسم الإفلاس والأستاذة بناروش ومجموعة من القضاة العبريين.
و كان الجو السائد في المحكمة مبنيا على أعراف وتقاليد رصينة وضاربة في عمق التاريخ القضائي بين أسرة العدالة التي كانت أسرة بكل ما في الكلمة من معنى، إذا اشتكى عضو تداعت له باقي الأعضاء  .
وحدث أن التحق المرحوم محمد العزوزي كوكيل الملك من فاس ليترأس النيابة العامة بالدار البيضاء، مكان المرحوم المكي نوشريف الذي التحق بمحكمة الاستئناف، وكانت له طبيعة أخرى في العمل تقزز منها بعض النواب الذين عملوا مع المرحوم مكي نوشريف فادى خلاف في الرأي و الاجتهاد أن انتقلوا إلى محاكم أخرى، مفضلين كرامتهم واحترامهم لطبيعة عملهم، وكان من بينهم الأستاذ الطالبي الحسين الذي لم يفضل فقط الانتقال و إنما تقديم استقالته من القضاء والالتحاق بالمحاماة،  وكنت من شهود العيان الذين حضروا واقعة محاولة الكاتب العام آنذاك المرحوم حسن العوفير ثني الأستاذ الطالبي الحسين على تقديم استقالته نظرا لما عرف عنه من كفاءة مهنية عالية ونزاهة أخلاقية كبيرة ومن جملة ما حاول اقناعه به آنذاك، أن بعض  القضاة خلقوا للقضاء وليس المحاماة وأن غالبيتهم لا ينسجمون مع عالم الدفاع .
لكن الأستاذ الطالبي ظل متشبتا بموقفه على تقديم استقالته.
و بعد سنة واحدة من ممارسة المهنة طلب مقابلة مع الكاتب العام لوزارة العدل، فظنّ الأستاذ حسن العوفير بأن الأستاذ الطالبي الحسين ربما سوف يتقدم من جديد بطلب لإعادة الالتحاق بالقضاء، لكن المفاجأة كانت كبيرة ذلك أنه بابتسامته المعهودة قال له جئت فقط في زيارة مجاملة و مدّه بمذكرة وطلب منه أن يفتحها.
ولما فتحها الكاتب العام وجد فيها رقام العشرات من الملفات التي كان يعجّ بها مكتبه في ظرف وجيز، وهي كناية على نجاحه في المهنة التي أحبها ولم يرضخ قبل سنة لمغريات العروض التي قدمت إليه من أجل ثنيه على الاستقالة و خييره في المحاكم التي يفضّل الممارسة فيها .
و تمنّى له الكاتب العام آنذاك التوفيق .
و لمّا سألت زميلي الأستاذ الطالبي عن سبب هذا الموقف أجابني:
لم يكن الغرض من ذهابي إلى وزارة العدل التبجح بنجاحي في المهنة في ظرف وجيز، وإنما ثني السيد الكاتب العام على وجهة نظره، وأؤكد له بالملموس على أن القضاة الناجحين في مهنة القضاء ينجحون في المحاماة كذلك، وذكرته بأن الأستاذ المعطي بوعبيد والأستاذ محمد التبر و النقيب الأستاذ الجناتي والحاج أحمد زروق أول محامي و وكيل عام للملك لدى محكمة النقض كانوا قضاة و من بعد محامين و نجحوا في المهنتين.
ومارس الأستاذ الطالبي مهنة المحاماة بنجاح كبير وبكرامة أكبر، وكانت لقاءاتنا في منزلي مع المرحوم الأستاذ أمنزول و الأستاذ الحنفي رحمهما الله فرض عين، حيث كانت ولا زالت لا تفرّق بيننا اختلافات المهنة والأدوار،  إلى أن تفاجأت بالحادث المروع و المؤلم الذي تعرض له مكتبه التاريخي ليس فقط بجدرانه، وإنما كذلك بتاريخ صاحبه، لأن المجتمعات المتحضرة ربما تضحي في بعض الأحيان بالجوانب المادية و المكاسب الصغيرة مقابل الاحتفاظ بتاريخ المؤسسات.
ففي عزّ الحرب العالمية الثانية كانت تعليمات سواء من قوات الحلفاء أو النازيين أنفسهم تعطي تعليمات عن عدم قصف المآثر التاريخية التي اتخذها فنانون أو شعراء أو رجال قانون كبار مقرات لهم لأنها تشكل موروثا حضاريا للأمة كلها .
وحدث في ألمانيا العظيمة أن قصفت خطأ في بلدة صغيرة منزل أحد الفنانين، وأرادت الدولة الفيدرالية تخصيص ميزانية من أجل ترميمه،  فرفضت بلدية البلدة ذلك وطالبت باكتتاب رمزي يؤديه سكان ألمانيا ليشعر كلّ واحد بأنه ساهم في الحفاظ على تراث تاريخي لا يعود للحكومة فقط، وإنما كذلك للأشخاص كما أورد ذلك الكاتب أنيس منصور في أحد مؤلفاته.
و و كان هناك حسّ حضاري والاعتناء بالموروث الثقافي لمدينة مثل الدار البيضاء لوقع ترميم مكتب المحامي الكبير الأستاذ الحسين الطالبي على حساب ميزانية المدينة، واحتفظ بتلك العمارة من أجل تاريخ ذلك المكتب وغيره من المكاتب، لأننا في يوم ما سنجد الإسمنت المسلح في المدن، ولا نجد التاريخ، وكذا تصبح مدننا مواد بناء دون روح ، وذلك سيكون منتهى التخلف، فتاريخ العالم ، ليس هو في قراراته سوى تاريخ العظام من الرجال ، فهم المبدعون لكل ما حققه الإنسان ، و لكل ما نراه من منجزات، و هو نتيجة التجسيم الخارجي المادي و العملي للأفكار التي ولدت في أذهان أولئك العظام من الرجال كما قال كارلايل.
و م من عظام في المحاماة يستحقون مكانهم في التاريخ، وما ضرّ مالك العمارة إذا كان وطنيا صادقا، وما ضرّ مجلس المدينة أن يُسمّوا تلك العمارة باسم المحامي الأستاذ الطالبي الحسين و خصيص باقي شققها كمكاتب للسادة المحامين الذين هم في حاجة لذلك ، و تخصص جنباتها لأنشطة هيئة الدفاع القريبة من المحكمة الأم التي احتضنت تجمعهم التاريخي .
تخليدا لتلك الوقفة التاريخية لمحاميي المغرب كردّ جزء من دين هذه المهنة الذي  في أعناق كل مغربي ومغربية، ويكفرون على هذا الخطأ الذي لن تصلحه محاكمة أو متابعة لأن جرحه عميق جدا في النفوس، و تحتفظ ذاكرة الدار البيضاء ومجلس مدينتها بتاريخ معنوي ويدخل من شارك في هذه الحادثة المؤلمة للتاريخ عوض الخروج منه، وكم من الوطنيين الصادقين فعلوا ذلك حبا في الوطن .
فالإجادة في العطاء أصعب من الإجادة في الأخذ كما قال نيتشه، وكم نحن محتاجون للعطاء للمهنة التي أعطتنا دون مقابل، ولم تطلب منا إلا الكرامة، فرفقا بها رفقا بالمعشوقة التي عشقناها جميعا و استحينا من النظر إلى وجهها الجميل حياء منا وتقديرا و قداسة، ونحينا لها في محرابها الذي يتسع للجميع ، في يوم جمعة في زمن كروونا وقد لفحت شمسه الحارة خديها فازدادت جمالا وازدادت رونقا أمام العالم أجمع و سطع نورها من جديد و غطّت شمسها مجالس العدالة .
فاسمحي لي معشوقتي فأنت غير محتاجة لأي قلم ليُعدّد مناقبك ولكنها قرحة حبك هي التي جعلتني أتجرأ عليك فمعذرة …..
بقلم الأستاذ نور الدين الرياحي
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.