المسجد العتيق بالجديدة : معلمة فريدة تنضح بالتراث والتاريخ
إعداد عبد اللطيف الجعفري: ومع
في ثنايا الحي البرتغالي التاريخي بالجديدة يتواجد المسجد العتيق الداخلي، الذي جرى تشييده بأمر من السلطان العلوي مولاي عبد الرحمان بن هشام ( 1822 /1859 م) ، ليشكل بعد هذا المسار الزمني الطويل، معلمة فريدة قاومت قساوة الطبيعة والمناخ ونوائب الزمن، لتبقى صامدة وقورة، وشاهدة على وقائع عديدة وحياة أقوام مروا من هناك .
وقد اجتمع في هذه المعلمة الدينية والمعمارية، التي شيدت في بداية عهد هذا السلطان، ما تفرق في غيرها من خصائص فريدة، لأنها بكل بساطة تختزن تحفا ثمينة في البناء والتجهيزات والهندسة المعمارية، حتى أصبح كل شيء فيها يجر وراءه تاريخا قائما بذاته، فتداخلت في ثناياها تواريخ عديدة .
هناك تاريخ معماري، وتاريخ روحاني، وحولهما يحضر تاريخ اجتماعي وثقافي، وهو ما حول هذا المسجد الذي شيد في عام 1820 م ، إلى فضاء أثري روحي، يزوره كل من يتردد على مدينة الجديدة، وذلك من أجل اكتشافه، بل واكتشاف الحي البرتغالي الذي يحتضنه بقوة، لأن هذا المسجد يشرف على الساحة المركزية للقلعة البرتغالية ، غير بعيد عن الكنيسة البرتغالية “سيدة الصعود”.
يتميز هذا المسجد بمئذنته الفريدة ذات الأوجه الخمس، التي شيدت فوق برج الرباط، أحد أبراج المراقبة في الحصن البرتغالي الأول، حيث كان برج الرباط يمثل أعلى أبراج هذا الحصن ، فكان يعلوه عمود دائري للإشارات للتبليغ عن أية هجمات مرتقبة.
وقد تم تحويل برج الرباط إلى مئذنة لهذا المسجد، الذي كان يسمى” الجامع الكبير” بعد سنة 1880، في عهد السلطان مولاي الحسن الأول (1873 /1894 م)، وذلك حتى يتمكن الناس من سماع الآذان للصلاة بصوت أعلى ، نظرا لعلو المنارة الجديدة مقارنة مع المنارة القديمة للمسجد .
فالمنارة القديمة أو المئذنة، حتى وإن بترت أجزاء عليا منها ، ما تزال تتعايش مع المنارة الجديدة. وهذا من فرادة هذا المسجد الذي يتوفر على منارتين تؤثتان الفضاء المعماري الخارجي للمسجد، ذلك أن المئذنة الأصلية للمسجد هي رباعية الأوجه، وهي ما تزال قائمة لتشكل أحد أجزاء هذه المعلمة .
وحتى لا تكون المئذنة المحولة منفصلة عن المسجد ( أي البرج المحول)، فقد تم ربطها بالمسجد من خلال بناء جسر صغير تعلوه غرفة صغيرة .
وما دام هذا المسجد، ينفرد بكل هذه الخصائص، فإن محيطه غني أيضا بعبق الثقافة، حيث يقع المنزل، الذي كان يقطن فيه صاحب أعمال ” الماضي البسيط” و”الحضارة أمي” والرجل الذي أتى من الماضي”، الكاتب الكبير ادريس الشرايبي، جوار هذا المسجد.
وحسب عبد الكريم بن التومية، خطيب المسجد العتيق، فقد خضعت هذه المعلمة لعمليات ترميم وإعادة تأهيل في فترات زمنية متفاوتة بغرض تشجيع المغاربة على الإقامة والعيش داخل القلعة البرتغالية.
وما دام هذا المسجد يعد خزانا لتواريخ عديدة، فإنه ما يزال كما أسر بذلك السيد بن التومية ، يحتفظ بلوحه تؤرخ لعملية ترميم جرت به عام 1358 هجرية، في عهد جلالة المغفور له محمد الخامس، مع الإشارة في الوقت ذاته إلى أن المسجد خضع أيضا لعملية ترميم في عهد جلالة المغفور له الحسن الثاني في أواخر القرن الماضي .
ومن خصائص هذا المسجد أيضا، يضيف بن التومية ، هو توفره على منبر فريد بخشبه الصلب وصباغته الطبيعية، حيث يعود تاريخ تصنيعه كما هو مبين في أحد أجزائه إلى 1324 هجرية، بل أكثر من ذلك يحمل في أسفله حتى اسم صانعه لمعلم “عبد الله المراكشي”، كدلالة على إدراك لأهمية التوثيق بالنسبة لهذا المنبر الحاضن لتاريخه الخاص والفريد ، الذي تتقاسمه معه أيضا عصى مصنعة من الخشب ، ضاربة في أعماق الزمن، والتي ما يزال يستعملها إمام المسجد في صلوات أيام الجمعة والأعياد الدينية.
هذه العصى الخفيفة والصلبة في الآن ذاته، والتي ما تزال تحافظ على كل عافيتها، قال عنها السيد بن التومية ، إنه لا يعرف تحديدا تاريخ صنعها أو حتى إحضارها للمسجد ، مؤكدا في الوقت ذاته أن كل الذين يترددون منذ سنوات طوال على الصلاة بهذا المسجد ، يقولون إنهم وجدوا هذه العصى هناك، وأنها قديمة جدا ، وتعد تحفة ثمينة يحرص القائمون على شؤون المسجد على حفظها والحفاظ عليها، كما هو الشأن بالنسبة للمنبر، وغيره من مرافق المسجد .