سيناريوهات الجقير
بقلم الأستاذ : رشيد بونجيم
سنحط رحلة الفحص والتحليل في خضم ظاهرة السعايا أو الطلبة ،أو بالأحرى سنسميها بلغة الشارع العام مادامت هي من أكثر المسلكيات ملاحظة في اليومي، داخل جميع المدن المغربية تقريبا، الجقير فعل من أكثر ما يمكن القول عنه مليئ بالدراما والتراجيديا والكوميديا ،مدارس مسرحية تمشي ليلا نهار وتسبح بيننا من أجل جمع الدريهمات، أصناف متنوعة إلى درجة التيهان، لا تتزحح قيد أنملة مشيا إلا رأيت نماذج تسوق لنفسها إما بكاءا أو لباسا أو مع أطفال، أو من هم في وضعية صعبة، وقد تجد الصنف الذي له لباس أنيق وفي مكان مليئ بالبرستيج ويسألك مبلغا ماليا لا بأس به مثل عشرون درهما أو خمسون بدعوى أن ديباناج أخذ سيارته وليس لديه شيء لكي يعود إلى منزله، أو أن العملية قد تتم بصيغة الأنوثة
تجد تلك الفتاة التي تسألك بنفس الأناقة وبطريقة غاية في اللطف عن مبلغ مالي محترم قدره خمسون درهما أوعشرون على حسب ما يترأى لها من هيئتك، وبطبيعة الحال مع أننا مجتمع رحيم بالقوارير نخشى ونخاف عليها ونتصدق، ويوما بعد يوم يتغير الملبس والحال والمكان ويرفع الستار وتبدأ المسرحية في مكان جميل يعج بالناس، فتبدأ عرضها التراجيدي لجلب الإنتباه لتصداد المتعاطفين وتجني ما تجني وتهاجر إلى مكان أخر، إنه أنموذج من الجقير وفي نفس الوقت شكل من أشكال النصب والإحتيال.
إني هنا سأستثني الحالات التي دفعها العوز والضرورة لمد اليد، وفعلا هناك حالات لا تجد إلا الشارع معيلا ومعينا لها على الفقر والعوز تجني ما تسد به رمقها وغالبا تحتاط من أجل ضمان السترة والإختفاء عن أنظار الناس حفظا لماء الوجه، ولكن ما أثار حنقي ودفعني للكتابة من هم إحترفوا الجقير لتكديس الأموال دون جهد بل بإستجداء الناس والنصب عليهم بأكاذيب واهية وواهمة، هؤلاء الذين يمثلون دور المحتاجين بإحترافية عالية ويمتلكون منهجيات مظبوطة ومتقنة في عمل سيناريو السعايا.
قد تنبش في البحوث الإجتماعية وبعض التقارير الوطنية وبعض التحقيقات الصحفية، سيثيرك المبلغ المجني يوميا ويتراوح ما بين مئتي درهم وسبع مئة درهم في اليوم أي بمعدل شهري قد يصل بسهولة إلى خمسة وعشرون ألف درهم شهريا، وفي الحملة التي أجريت في مدينتي الرباط والدار البيضاء سنة 2013، فقد وجدوا أن بعض مدعي التسول يحملون معهم الملايين وحتى المساعدين الإجتماعيين صدموا من بعض الحالات التي تملك مبالغ كبيرة ولازالت تصر على التواجد في الشارع كأن الأمر تحول إلى مرض نفسي وإجتماعي أو إدمان التسول وطمر الأموال، لذا سنحصر التحليل والفحص في مجال محدود وأنا سأقتصر بداية على سيدة يلقبونها سائقي الطاكسيات بمحطة إنزكان بمليكة وهي سيدة تحترف التسول وتقطن بمدينة أزرو قريبة بكلومترات قليلة عن إنزكان المدينة، تأخذ حافلة ألزا في السادسة صباحا لتلتقي صديقاتها وأصدقائها في الحرفة فيتبادلون أطراف الحديث وراء فندق الحكونية وبالضبط بجانب الحافلات الزرقاء المهترئة التي تتجه إلى القلعة، ما موضوع الحديث؟ موضوعه هو تقسيم المجال، أي تحديد مجال العمل عل شكل توضيح الحدود أو تبيان مناطق النفوذ
وهناك أماكن تذر دخلا جيدا فهم يتبادلون في عمل داخلها، مثل طاكسيات السلام والهدى أو داخل محطة الحافلات خاصة في فترة المساء، إنهم يتكلمون بصوت مرتفع كأنهم يفرقون الوزيعة بإحترافية كبيرة في كيفية تدبير النقاش وطرق الإقناع والتفاوض على الأمكنة التي تسيل اللعاب في فترة الذروة، محللون اقتصاديون بالخبرة والممارسة اليومية، ومن أكثر المشاكل التي تقض مضجعهم هي عندما يزاحمهم عنصر جديد مثل أطفال الشوارع الذين ينادونهم بالشمكارا، ولكن هؤولاء خصم ضعيف ومرفوض إجتماعيا لرائحتهم النثنة وضعف طرق تسولهم، الخصم القوي لهم وهم الأفارقة هاته الفئة تستنزف جهدهم وتنافسهم بشراسة، ويضاف لهم السوريون،ولكنهم في الفترة الأخيرة تناقصت أعدادهم بحكم بداية العودة إلى البلد
بعد التفاوض تأخد مليكة سبع خطوط للطاكسيات ولا تتجاوز حدودها، ومن زار المحطة الخاصة لطاكسيات في إنزكان سيراها متراصفة حسب الإتجاهات ولكنهم لا يسمونها الإتجاهات بل يلقبونها بالخطوط، فتبدأ بالدور التمثيلي الإعتيادي مستعملة اللغة الدارجة أو الأمازيغية بصوت رهيف يعبر عن الحرمان والفقر وكذا الشكل يزيد الطين بلة ، بجلباب من سنوات الثمانينات ومتسخ وترازى في الرأس وقفة بلاستيكية تتضمن قنينة ماء وحزام عريض في وسط الجسم، فتبدأ رحلتها، لا تطلب الكثير بل مجرد درهم لشراء خبزة وإطعام اليتامى، مع العلم أنها تعيش وحيدة، لأنها في الأصل مطلقة بسبب عدم الإنجاب حسب ما تحكي هي، قد يعتقد أي شخص أن المسكينة ماذا ستفعل بدرهم فهو لا يغني ولا يسمن من جوع
فأنتم وأنا معكم كنت واهما لكن بحساب بسيط صدمت من النتيجة، فهي تبقى اليوم بكامله ولا تتزحح من مكان عملها إلا في حدود الساعة العاشرة وأحيانا إلى حدود الساعة الحادية عشرة بحكم رجوع إخواننا المخمورين من مواخير الخمر في أكادير فيكونون غاية في السخاء عوض درهم قد يقدمون خمسة دراهم، قلت سلفا أنها تشتغل في سبعة صفوف أو خطوط فكل خط يمر فيه يوميا أكثر من 120طاكسي أو بلغة أصحاب طاكسيات 120 فياج بمعنى أنه على الأقل إذا تحصلت على مئة درهم في كل خط سيكون ضرب مئة في سبع خطوط هو 700درهم وهذا المبلغ قد يكون في يوم أعلى ويوم أخر أقل، عدوها في الشهر كم تجني تمارس هذا العمل يوميا دون ملل أو عياء وفي أمكنة متنوعة لكي لا يدرك الناس ولا يألفون وجودها فالتغير إستراتيجية قصدية لتجريب أماكن متعددة ومعرفة أحسنها وفي نفس الآن لكي ينساها الناس خاصة في الخطوط التي تتواجد فيها، هكذا أيضا يشتغل زملاءها المتسولين المساكين أو المبدعين للمسكنة من أجل التكسب ومراكمة الأموال وكنزها والعيش بالتقشف إلى متى؟ الله أعلم، ليس بعيدا عن هذا النموذج الحي، سنجد أنفسنا أمام نموذج أخر يتشغل في مكان راقي أي يمارسون الجقير هاي كلاس، في جنبات مارينا أكادير، بعض العجائز يتصيدون الخليجين ويبكون بطرق هستيرية لايطلبون شيئا بل يتحينون الفرصة حتى يقترب منهم الضحية
وينزلون بكاءا ولطما في وجوهن إلى أن يلتفت الأشخاص خاصة الشباب الخليجي، فيعطفون ويتعاطفون مع حالاتهم وبعد ذلك يساعدونهم بمبالغ محترمة تتراوح ما بين 500 درهم و1000درهم فيسكتون عن البكاء أو يستمرون لتأكيد الحالة ومنهن من ترفض المساعدة وبعد هنيهة زمنية تمسك المبلغ وما إن يذهب الشخص المتصدق تغادر من ذلك المكان، كأنها لم تكن أنتبهت لبعض الحالات ولكن في لقاء صديق لي مؤخرا بأكادير لاحظت ما وقع عن كثب تعاطفت إنسانيا لكن بمجرد ما إنتبهت لطريقة البكاء والسكوت وأنواع الكلمات، فأدركت أنها عملية الجقير من نوع خاص وفي موقع خاص ومع أشخاص مختارين بعناية فالأمر ليس وليد الصدف بل إحترافية في العمل والإتقان
لذلك قلت بداية عمل مسرحي متكامل فنيا ينتج ويذر على أصحابه أموالا محترمة، فكانت الفرصة سانحة في نفس اللحظة عل استكمال هذا الفحص والتحقيق فكان الاختيار أننا جالسنا صديقا شبه قديم من محبي السهر في الحفر الليلة فقال : أن هناك صنف أخر يمكن أن تضيفه في التحقيق وهو أنه هناك بعض بائعات الهوى الممارسات للعمل الجنسي في الملاهي الليلة يختارون مسلك البكاء على بعض الزبائن المعروفين بحظوتهم ولطفهم ومالهم، بأنهم غارقات في ديون من قبيل مبالغ الكراء المتراكمة ولم يستطيعوا الأداء بحكم ضعف وقلة العمل وببكائهن يمارسن التسول لجني أموال ويزيد ذلك الجو الخمري والأنوثة البارزة المتجلية، ولتأكيد أجري إتصالا بحالة صادفته في سهرة سابقة فوعدها بالمساعدة، فاتصل بها فكان الرد بسرعة وبمجرد ما أعرب عن قبول مساعدتها أجهشت بالبكاء، فعلمت أنه النماذج المقدمة ما هي إلا نماذج تقريبية وما خفي كان أعظم
فربما هاته الحالات كانت تعاني العوز أو الفقر لكن هناك من يرفض العمل بعرق الجبين بسبب ضعف الأجر فينصب الإختيار على الجقير لأنه سهل وله مقابل مادي يسيل اللعاب، هنا يصبح الأمر يتخذ سيناريوهات الإحتراف من أجل الإقناع وكسب التعاطف للوصول إلى جيب المواطن ومعانقة الدريهمات سواءا كانت قليلة أو كثيرة. ولهذا سأختم مع حالات النصب ولكن بقناع التسول وهم الأشخاص الذين يفاجئون الركاب في الحافلات واحد يطلب تعاطف الناس مع شخص ورائه يبكي حظه أنه سرق منه كل ما يملك وسيبيت مع أولاده في العراء وثمن التذكرة لا يساوي إلا 180 درهم، ويبدأ الناس بالتضامن والمساهمة وما الأمر إلا لعبة تحاك بإتقان يرونها في حافلات متعددة وبنفس الطريقة، فيجنون مبالغ مالية مهمة بسبب إنطلاء الحيلة على الناس، فهنا تختلط الأوراق يين النصب والإحتيال والتسول الإحترافي بذكاء وخبرة ميدانية.
مسيرة موفقة أستادي
بالتوفيق أستاذ