الممارسات غير الشرعية لطب الأسنان.. “الآفة” التي تنخر صحة المواطنين
بين الأزقة الضيقة للمدينة القديمة بالبيضاء، ستجد محلا بسيطا تعلوه لوحة مكتوب عليها “صانع أسنان”. هذا المحل يأتي إليه المواطنون خاصة سكان المدينة القديمة من كل صوب، لاعتبارات تتعلق أولا بالتكلفة البسيطة التي يعرضها الصانع لاستمالتهم.
وأنت تقترب منه سيُخيل إليك أنك أمام منزل مهجور، حيث لا شيء يوحي بأنها عيادة سوى تلك العبارة المكتوبة وصور أسنان براقة والبذلة التي استقبلنا بها صاحب المحل. قبل ذلك صعدنا عبر سلم ضيق يقود إلى باب العيادة. لينتابنا شعور بالخوف أمام المشهد المأساوي الذي اصطدمنا به، حيث القذارة تعم جنبات المكان. جدران متآكلة ومكتب مبعثر وأدوات تقليدية فضلا عن غرفة استقبال لا تُشعرك بالأمان.
! تقويم الأسنان.. 1000 درهم
لم نجد في البداية أدنى صعوبة في الولوج إلى الغرفة الخاصة بعمليات التقويم والترميم، ذلك أن بابها كان مفتوحا يفصله قماش بسيط عن أنظار الزبناء. استقبلنا رجل خمسيني كان يرتدي بذلة طبية، ليسألنا سؤالا
غريبا “هل تودين أسلاك الفم من أجل التزيين أم من أجل التقويم؟”، وحين استفسرناه عن تكلفة التقويم، قال لنا إنها لا تتعدى 1000 درهم، وهي تكلفة تقل أضعاف مضاعفة عن الثمن الذي يعرضه الطبيب المختص، والذي لا يقل في الغالب عن 15 ألف درهم.
وبدون موعد، طلب منا الاسترخاء فوق الأريكة كي يباشر عمله، مستعينا بأدوات تقليدية بدت لنا أول وهلة غير معقمة قبل أن نطالبه بالتوقف إلى حين عودتنا مجددا. بعد خروجنا، وجدنا زبونة تنتظره في غرفة الاستقبال، فسألناها عن سبب تواجدها لتكتفي بجواب مقتضب “إيديه زوينة”، وأنها ظلت تتردد عليه منذ سنوات كلما احتاجت إلى ترميم أسنانها.
عيادة أخرى لا تقل مأساة عن سابقتها، من حيث انعدام أبسط شروط السلامة الصحية للمرضى. ليست سوى محل بسيط يتواجد في إحدى الأحياء الشعبية بمنطقة البرنوصي بالبيضاء، صاحبه يمتهن صناعة الأسنان لكن في ظروف استثنائية. كانت عيادته تعج بالزبناء في وقت كان منهمكا في عمله داخل غرفة ضيقة، محيطة بجدران متآكلة، ومستعينا بأدوات تقليدية لإزالة التسوس من فم المريض. بدا المظهر كئيبا أمام زمرة من المواطنين الذي كانوا ينتظرون دورهم دون علمهم بكل ما يمكن أن يترتب عن ذلك من مخاطر. سألنا أحد الزيناء عن سبب مجيئه، فقال لنا إن التكلفة هي من شجعته على المجيء، “كما أن صاحب العيادة لديه خبرة في هذا المجال كما لم يسبق أن تسبب في أدى لأحد”.
ضحايا مخربو الأسنان ..
حالات مزمنة وأخرى معدية وصلت إلى حد الوفاة، تلك التي تناولتها مختلف وسائل الإعلام مؤخرا بسبب ارتفاعها في الآونة الأخيرة نتيجة الممارسات غير الشرعية لبعض صناع الأسنان، والتي أودت بحياة العديدين كما تسببت في عاهات مستديمة لم ينفع معها العلاج.
مليكة، أم لطفلين تنحدر من مدينة الرباط. كانت ضحية للعشوائية التي يعرفها هذا القطاع، بعد لجوئها إلى صانع أسنان بإحدى الأحياء الشعبية بسلا، قالت إنها اعتقدته في البداية طبيبا متقاعدا، قبل أن تلمح بعد عودتها إليه، شواهد تقديرية معلقة على حائطه في مجال الصناعة التقليدية.
تحكي مليكة بنبرة مؤثرة تفاصيل الواقعة، حين أحست في البداية بألم على مستوى الضرسة، ما جعل أحد جيرانها يقودها نحو هذا الشخص بدعوى خبرته وحنكته في هذا المجال. مضيفة أنه أثناء محاولته اقتلاعها بدى عليه التعب من شدة قوتها قبل أن يقتلعها بطريقة عنيفة.
وأردفت الضحية قائلة : ” لم أشعر حينها بأي ألم ، إلا بعد عودتي إلى البيت، بل والغريب في الأمر أنه لم يمنحن أي مسكن، ليعاودني الألم مجددا لكن هذه المرة أكثر حدة. لم أستطع مقاومة الألم وهو ما دفعني للتوجه إلى طبيب مختص، لأفاجأ بانني تعرضت للكسر على مستوى فكي السفلي. كانت أعراض الإصابة واضحة بعد ظهور انتفاخ غير طبيعي في خذي الأيمن. وقد أجريت فحوصات بالأشعة ليتبين أن صانع الأسنان قام باقتلاع الضرسة من العظم، وهو ما تسبب في تعفن وانتفاخ كاد أن يتطور المرض إلى ورم خطير لولا إسعافي في الوقت المناسب”.
صانع أراد تقويم الأسنان فأزال طبقة الميناء
ضحية أخرى، عرضها برنامج 45 دقيقة على القناة الأولى، حين لجأت شابة إلى أخصائي لمعرفة سبب الاصفرار الذي يكتسي أسنانها الأمامية، لتكتشف أن صانع الأسنان أزال طبقة الميناء التي تحميها من التسوس تاركا طبقة العاج المصفرة معرضة للبيكتيريا، وهو ما ينذر حسب الطبيب المختص بإصابتها بأمراض معدية إن ظلت حالتها قائمة على ما هي عليه.
ضحية أصيبت بسرطان الفم وآخر بنزيف حاد
مواطنة تنحدر من العاصمة الاقتصادية، تشتكي من مرض عضال، يتعلق الأمر بسرطان فموي تعرضت له بسبب استعمال أحد الممارسين غير الشرعيين أدواتا غير معقمة في إخلاع ضرستها التي كانت تؤلمها، قبل أن تتفاجأ بأن ذلك وراء إصابتها بمرض خطير لم ينفع معه علاج.
مصير مأساوي أيضا كانت ينتظر شابا في 14 من عمره، حين لجأ إلى أحد الممارسين غير الشرعيين لمهنة طب الأسنان، والذي لم يتردد بالمقابل في افتراس مكان السن الذي يؤلمه، الأمر الذي تسبب له في نزيف حاد على مستوى الفم، قبل أن يقدم والد الضحية على رفع دعوى قضائية ضد المتهم.
وفاة مهاجر مغربي بأمريكا داخل عيادة صانع الأسنان
بين الضحايا الذي توفوا على يد أحد صناع الأسنان بمدينة أكادير كما جاء في شكاية هيئة أطباء الأسنان التي وجهتها مؤخرا للنيابة العامة. مهاجر مغربي مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، لفظ أنفاسه الأخيرة داخل مختبر لصناعة الأسنان بعدما ألمت به ضرسة دفعته نحوه لاقتلاعها.
وكان المهاجر المغربي سبق أن أجرى عملية للقلب المفتوح في الولايات المتحدة وأنه حل بنواحي أكادير لزيارة بعض أفراد عائلته، قبل أن يفارق الحياة.
واعتقلت الشرطة بأكادير المتهم قبل أن تقرر النيابة العامة متابعته في حالة سراح وتكييف المتابعة على أساس أنها خطأ طبي، فيما وضع المجلس الجهوي للجنوب للهيئة الوطنية لأطباء الأسنان شكاية ضد المسؤولين عن المختبر تتهمهما بالممارسة غير الشرعية لمهنة طب الأسنان. بالمقابل نفى علي عفيفي الكاتب الجهوي لنقابة صانعي ومركبي الأسنان بجهة الدار البيضاء، أن يكون صانع الأسنان سببا وراء الوفاة، معربا عن قلقه الشديد من بعض وسائل الإعلام، والتي قال إنها لا تتحرى الخبر بالشكل المضبوط، مؤكدا على أن حادث الوفاة كان قضاء وقدر ولم يكن لصانع الأسنان يدا فيه.
أطباء الأسنان يستقبلون أزيد من 50 حالة مستعصية
كشف رئيس النقابة الجهوية لأطباء الأسنان بالقطاع الخاص بالبيضاء، الدكتور محمد سديرا، عن رقم مخيف لعدد المرضى المصابين بسبب صناع الأسنان على حد تعبيره.
وقال سديرة، إن عدد المصابين الذي يفدون من عيادات صناع الأسنان إلى الأطباء يفوقون 50 ضحية يوميا، وهي حالات تتراوح إصابتها الخطيرة بين كسر على مستوى الفك، وأمراض مزمنة وأخرى متعفنة ومعدية. مشيرا إلى أن استعمال بعض صناع الأسنان لأدوات غير معقمة سبب وراء ارتفاع حالات المصابين بالمغرب.
عفيفي: ما يروجه الأطباء عن صناع الأسنان مجرد افتراءات
ردا على ما روجته وسائل الإعلام مؤخرا حول علاقة صناع الأسنان بوفاة الضحايا، وردا كذلك على ما وُصف بالهجوم الشرس الذي تشنه هيئة الأطباء في حق صناع الأسنان، خرج علي عفيفي الكاتب الجهوي لنقابة صانعي ومركبي الأسنان بجهة الدار البيضاء، عن صمته، ليؤكد أن ذلك مجرد افتراءات غرضها التشويش وتغليط الرأي العام وتحريض المواطنين للعدول على صناع الأسنان واللجوء إلى الأطباء المختصين.
وقال عفيفي، لو كان صناع الأسنان يتسببون فعلا في أمراض خطيرة ومعدية للمواطنين كما تدعي الهيئة، لأدلت وزارة الصحة بالإحصائيات التي تتبث علاقتهم المباشرة بتلك الأمراض، وهي إحصائيات لا وجود لها على الإطلاق.
وأكد عفيفي في حديثه مع “جورنال أنفو”، أن هيئة أطباء الأسنان تسعى بكل ثقلها للإطاحة بصناع الأسنان، على اعتبار أنهم يشكلون خطرا يهدد ربحهم التجاري لاغير، كما أن صانعي الأسنان لا يعرضون خدماتهم رغم جودتها العالية بكلفة باهظة كالتي يفرضها الطبيب المختص على المواطن.
وقال عفيفي إن صانع الأسنان لا يستورد موادا مصنعة من المختبر كما يفعل الطبيب، الشيء الذي يجعله يقدم أثمنة مناسبة للمواطنين، مشيرا إلى أن عددا منهم تتلمذوا على يد صناع الأسنان، بالنظر إلى تجاربهم السابقة التي راكموها منذ ما يزيد عن 40 سنة على حد تعبيره.
لا علاقة لنا بمخربي الأسنان
استطرد علي عفيفي كلامه للرد على الاتهامات الموجهة إلى صناع الأسنان، وقال المتحدث أنه في حالة وجود عيادة لا تُتوفر بها على الشروط الصحية والوسائل المعقمة من النوع الرفيع، فإن على الدولة أن تمنع صاحبها من مزاولة مهامه، مشيرا إلى أن صناع الأسنان لا يقفون ضد إصلاح هذا القطاع، بقدر ما يطمحون إلى إيجاد الحلول المناسبة لهم.
وقال عفيفي، إن “هيئة الأطباء لم تفكر في التعاون معنا لمحاربة هذه الآفة، مكتفية بتعميم التهم المغلوطة على جميع صناع الأسنان، علما أن أغلبهم لا تقل خبرته المهنية في هذا المجال عن 30 سنة. فهناك دائما حالات استثنائية داخل كل قطاع، كما أن إشكالية الأمراض الناجمة عن سوء التعقيم داخل بعض العيادات، قابلة للإصلاح والتسوية، وليس عن طريق ترويج اتهامات لتغليط المواطن وتخويفه، ولحسن الحظ أن ذكاء الأخير جعله لا يكترث لمثل هذه الأكاذيب”.
سديرا: صحة المواطنين لا تتحمل العبث
قال رئيس النقابة الجهوية لأطباء الأسنان بالقطاع الخاص بالبيضاء، الدكتور محمد سديرا، إن هيئة الأطباء لا تحارب صناع الأسنان كأشخاص، وإنما الآفة الناجمة عنهم حسب تعبيره، مشيرا إلى أن الرخصة التي يشتغلون بها منذ الاستعمار الفرنسي إلى الآن، تمنعهم من التدخل الجراحي في فم المريض، كما تمنعهم من تركيب الأسنان، مطالبا بضرورة احترامهم لما جاء في تلك الرخصة حفاظا على سلامة المواطن.
ولم يخف سديرا إعجابه واحترامه لعدد من صناع الأسنان، على اعتبار الدور الأساسي الذي يقومون به لمساعدة الأطباء، وهم يمتلكون مختبرات محترمة لصناعتها دون أن يفكروا في التطاول على اختصاصات جراح الأسنان، ورغم ذلك “عايشين بيخير”.
وقال سديرا إن هيئة الأطباء وأمام ارتفاعات الحالات المستعصية الناجمة عن صناع الأسنان، فإنها دخلت في التفتيش بتنسيق مع السلطات المحلية لتفاجأ بوجود عدد منهم لا يتوفرون على مختبر، “وإنما مجرد محل عشوائي مستعينين من خلاله بحقن مخدرة منتهية الصلاحية ومنتحلين صفة أطباء أسنان”.
وعبر سديرا عن استغرابه مما يروجه صناع الأسنان، معتبرين أن الأطباء يمارسون عليهم الرقابة في حين أننا لا نقوم بذلك وإنما مطالبنا تصب في تقنين هذا المجال لا غير”.
عقوبات حبسية وغرامات مالية بالجملة
هدد وزير الصحة، البروفيسور الحسين الوردي من خلال مشروع القانون الذي أتى به مؤخرا، بعقوبات حبسية في حق ممارسي مهنة الطب غير الشرعيين، تصل من 3 أشهر حبسا نافذا إلى سنتين، وبغرامة من 5000 إلى 20 ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط في حالات، منها الممارسة بدون دبلوم يؤهل لذلك، أو الممارسة بدون التوفر على إذن لمزاولة المهنة، أو القيام بأعمال لا تتعلق بالمهنة المأذون بمزاولتها، والاستمرار في المزاولة بعد سحب الإذن، وهو ما اعتبره علي عفيفي إقصاء ممنهج ضد صانعي الأسنان، كما يهدد بحسبه حوالي 30 ألف صانع بالمغرب، وهو قرار يرفضه رفضا باتا.
وأردف علي عفيفي، بأن صناع الاسنان يقدمون خدمات ذات جودة عالية بشهادة المواطنين أنفسهم، وأن الشغيلة تناضل من أجل العيش الكريم وإزالة التهم الباطلة عنها كما وصفها، مشيرا إلى النقابة المنضوية تحت لواء الاتحاد لوطني للشغل، مقبلة على وقفات احتجاجية متتالية أمام البرلمان استنكارا على الوضع المتردي الذي تعيشه.
هذا ونص مشروع القانون، على منع بيع الرمامات بواسطة التجوال، معرفا ممتهني صناعة الأسنان بأنه “كل شخص مؤهل بالنظر إلى التكوين المحصل عليه لإعداد وصناعة رمامات الأسنان، بطلب من أطباء الأسنان أو الأطباء المتخصصين في أمراض الفم والأسنان، وتحت مراقبتهم”..
جورنال أنفو – بشرى بلعابد