شبح الموت يهدد سكان المدينة القديمة بالبيضاء
كارتي كوبا .. بوسبير.. درب كناوة .. درب المعيزي .. بوطويل.. أسماء تحملها أزقة وعرة بالمدينة القديمة بالدار البيضاء وأحياء لا يمكن إلا أن تقشعر لها الأبدان من شدة البؤس المحيط بها.. منازل على شفى حفرة من الانهيار في أية لحظة، تكاد الرياح تميل بها تارة وتُسقط أحجارها وجدرانها فوق رؤوس سكانها تارة أخرى. مشهد مخيف لا يمكن إلا أن ينأى بك عن المغرب النافع الذي ألفناه، ليحملك إلى عالم صادم أشبه بما نراه من دمار في سوريا أو العراق من شدة الخراب المحيط بها..
منذ أن انهار منزلين مؤخرا بدرب المعيزي بالمدينة القديمة، وما كان قد خلفه من قتلى ودمار، وسكان المدينة القديمة لم يعد ينام لهم جفن من شدة تخوفهم من تكرار هذه الفاجعة خاصة أمام منازلهم الهشة التي باتت تستدعي أكثر من أي وقت مضى تدخل المسؤولين حفاظا على سلامتهم من الهلاك.
بيوت رغم اندثار ملامحها، وتحولها مع مرور الزمن إلى أكوام من الحجارة والحديد، إلا أن عائلات معوزة أبت إلا أن تتمسك بها تفاديا للمبيت في الشارع وخوفا على نفسها من مصير مجهول.
درب المعيزي.. منازل الرعب
حين تطأ قدماك أرض هذا الحي الشعبي القديم بالمنطقة، سينتابك شعور بالخوف أمام بناياته الهشة. حيث الأزقة ضيقة ومتشعبة، وبيوت نخرها الدمار ولم يتبق منها سوى جدران مهترئة سقطت أحجارها لتبقى حفر غائرة تهدد سلامة المارة والسكان على حد سواء.
كلاب ضالة هنا وهناك ومنازل هشة وأخرى دُمرت بالكامل.. بيوت تبعث على الرعب من شدة قسوتها. كلما اقتربت منها تشعر وكأن سقفا ما سينهار فوق رأسك في أية لحظة.
وسط هذا المشهد الكئيب، تعيش أسر مكلومة، معوزة، تستغيث المسؤولين لإنقاذها من هذا الوضع اللاإنساني، وهو مطلب ظل معلقا دون أن يجد له أذنا صاغية على حد قولها.
ونحن نلتقط صورا حية لهذه المشاهد، لمحتنا سيدة كان باديا على ملامحها تدمرا شديدا، مخاطبة إيانا بلكنة غاضبة “حنا مابقيناش كانتيقو فالصحافة والمسؤولين.. انتوما كذابين بعدو منا”. هذه المواطنة فضلت الصمت على أن تتحدث عن ظروفها القاهرة، رافضة إبداء أي تعليق من شدة الوعود “الكاذبة” التي تلقتها من المسؤولين دون أن يحدث معها أي تغيير يُذكر.
ما إن علمت سيدة أخرى سبب زيارتنا، حتى بدأت في التعبير عن معاناتها دون توقف. وهي تذرف الدموع خوفا على سلامة أطفالها الأربعة الذين يعيشون تحت سقف آيل للسقوط.
تحكي هذه السيدة الأربعينية بنبرة مؤثرة ” ملينا من هاد الموضوع”، لم يطرأ أي تغيير منذ أن قدم لنا المسؤولين وعودا بالانتقال إلى شقق أخرى. والخطير في الأمر أنه تم إقصائي من لائحة المستفيدين رغم أن البيت في ملكية والدي رحمه الله، بالمقابل استفاد البعض رغم عدم توفرهم على شهادة الملكية، وذلك بسبب إمكانياتهم وقدرهم على تقديم “الرشوة”.
دخلنا إلى بيتها بعد أن صعدنا سلالمه الهشة، يعلوه سقف نصفه سقط أرضا و نصفه الآخر أقرب إلى الانهيار. حيث غرف مليئة بالأحجار والأزبال، كما أن مساحتها لا تعدو أن تكون مجرد مترين و نصف.
وسط هذا المشهد الكئيب، تعيش “أمينة.ب” رفقة أطفالها الأربعة وزوجها العاطل عن العمل. انتابنا شعور بالخوف ونحن نتجول بين جوانبه المقفهرة. كنا نخطو بخطوات هادئة مخافة أن يسقط سقف ما فوق رؤوسنا، لتخاطبنا السيدة بنبرة مؤثرة قائلة: ” مابالك نحن الدين نعيش ليل نهار في مثل هذه الظروف. لا يُغمض لنا جفن من شدة خوفنا الشديد من الموت تحت الأنقاض”.
خياران .. أحلاهما مر
بين إرغامهم على اكتراء شقق في انتظار تعويضهم بشقق أخرى، وبين عدم قدرتهم على تسديد هذا الكراء أو حتى التفكير في ذلك، تبقى المئات من الأسر بعدد من الأحياء الشعبية بالمدينة القديمة، تعيش على خيارين أحلاهما مر. ضمنهم أسر أبت السلطات المحلية الاعتراف بها كمستفيدة لأسباب تبقى مجهولة حسب تعبيرها، رغم توفرها على شهادة الملكية تثبت أحقيتها في هذا التعويض الذي انتظرته سنوات خلت، قبل أن تفاجأ بحرمانها من هذا الحق، وإرغامها على أداء مبلغ 200 ألف درهم، كشرط لاستفادتها منه. وأمام هذا الوضع، لم يجد سكان المدينة القديمة، خاصة في الأحياء الهشة كدرب المعايز، ودرب كناوة، وبوسبير، وبوطويل.. واللائحة طويلة، سوى اختيار الانتحار والمكوث تحت أسقف آيلة للسقوط، على أن تستلم لهذا الأمر وتُلقي بنفسها إلى الشارع حيث المصير المجهول.
أحياء تحت الأنقاض..
تعرفنا على مواطنة منقبة، قادتنا إلى بيتها الهش المكون من طبقتين، يعلوه ركام من الأحجار. حيث تعيش رفقة إخوتها الثلاثة في وضع لا يقل مأساة عن سابقه. حيث لا مرحاض ولا مطبخ ولا أثر لشروط العيش الكريم، سوى غرفتين وسط كل طابق، جدرانها منشقة وأسقفها منهارة، ومساحتها تضاهي مساحة القبور.
كشفت هذه السيدة وهي تاجرة في الأواني البلاستيكية، أنها لم تتوصل بإشعار من السلطات المحلية بالإفراغ قصد تنبيهها من خطورة البناية التي تقطن بها، مشيرة إلى أنها لم تزرها أية لجنة مكلفة بهذا الأمر، سوى أنها تسمع عن وجود تعويضات سكنية، تمرر بين المواطنين على نحو “مشبوه”. كما أن البناية رغم آيلتها للسقوط، إلا أنها تعيش فيها بسبب ظروفها المعوزة. على حد تعبيرها.
وأضافت قائلة : ” في هذا البيت أو الكهف الذي أقطن فيه، لا نتوفر على مرحاض، وذلك بسبب تعطل قنوات الصرف الصحي بالمنطقة، مما دفعني إلى تشميع بابه، وقضاء حوائجنا خارج البيت. علما أننا سبق أن وقعنا شكاية وراسلنا رئيس الجماعة لإيجاد حل عاجل لهذا الوضع، إلا أن جوابه ظل غامضا ولم نتوصل منه بأي استفسار إلى حدود الآن”.
وفيات.. والحصيلة في ارتفاع
كشفت السيدة المنقبة، وهي متزوجة من رجل متقاعد، عن وفاة أربعة أشخاص، سبق أن لقوا مصرعهم بسبب سقوط أسقف البيوت التي يقطنوها بجوارها. مشيرة إلى أن الأمر مرشح للارتفاع في أية لحظة إن ظل الأمر قائما على ما هو عليه، خاصة أمام استمرار السلطات المحلية في التعنت والصمت على ما يعانيه المواطنين هنا بالمدينة القديمة. مشيرة إلى أن الوضع يزداد سوءا يوما بعد يوم، أمام عدم تعجيل المسؤولين بإيجاد حل عاجل لهم. “أعتقد أنهم ينتظرون اللحظة التي ستنهار فيها العمارة فوق رؤوسنا ويتوفى منا المئات، كي يحسوا بالمخاطر التي تحذق بنا ويسارعوا حينها نحو الحلول التي لم يجدوا لها أية صيغة إلى يومنا هذا”.
لم أعد أنام بعد فاجعة درب المعيزي..
انتقلنا إلى زنقة زناتة بحي كارتي كوبا المتواجد خلف مسجد الحسن الثاني، حيث السكان يستغيثون بسبب انتشار البناء العشوائي الذي يقوم به أصحابها، والتي ليست سوى بنايات آيلة للسقوط، بُنبت منذ عشرات السنين، دون ان يتم إعادة هيكلتها أو صيانتها.
كشفت سيدة وهي تعيش رفقة أخيها وابنتها في غرفة ضيقة وسط هذا الحي، أن صاحب البيت، لم يتردد في بناء طابق آخر رغم أن المنزل هش لا يتحمل هذا الثقل. “والأكثر من ذلك، وبينما نحن نيام، تفاجأنا مؤخرا بانهيار جدران فوق رؤوسنا، ولولا لطف الله للفظنا أنفاسنا جميعا. كنا لحسن الحظ فطنا لأمره، حين شعرنا بأصوات صادرة عن سقف البيت الذي نقطن فيه، وهو ما ينذر لا محالة بتكرار فاجعة درب المعيزي، وكلما تذكرتها، إلا وأشعر بالرعب وأضطر فيه الخروج من البيت بحثا عن مكان آمن أنام فيه”. مشيرة إلى أن صاحب البيت “لم يأخذ بعين الاعتبار احتمال سقوط البناية، ورغم ذلك فهو يتوفر على ترخيص غير مفهوم يسمح له ببناء ما يحلو له”.
بوسبير.. مأساة لا تنتهي
انتقلنا إلى حي بوسيبير بالمدينة القديمة، حيث زرنا أسرة معوزة، لا يقل وضعها المأساوي عن أوضاع باقي العائلات الأخرى. يتعلق الأمر بسيدة ثمانينية، الحاجة رقية، وهي تعيش رفقة ابنتها المعاقة ذات 55 سنة، إلى جانب حفيدتها القاصر في منزل أشبه بكوخ مخيف. حيث الحشرات والفئران.. أما البناية فتكاد تنهار من شدة هشاشتها فوق رؤوس أفراد هذه العائلة، والتي أصبحت تنتظر الموت تحت الأنقاض أمام الأبواب الموصدة في وجهها.
تحكي هذه السيدة، أن عدم قدرتها على اكتراء شقة في انتظار أن تستفيد من السكن كما وعدها بذلك ممثلي السلطات المحلية قبل سنوات من الآن، جعلها تمكث بمنزلها الذي عمرته أزيد من نصف قرن، دون أن تحرك ساكنا في غياب الإمكانيات التي لا تسمح لها بذلك.
وعود اعتبرتها واهية، في ظل تأخر المسؤولين في الوفاء بها، ما من شأنه أن يعجل بوفاة أسرتها في أية لحظة كما جاء على لسانها.
أما حفيدتها، وهي فتاة قاصر تبلغ من العمر 15 سنة، فقاطعت حديث جدتها كي تعبر لنا عن مأساتها كتلميذة وجدت نفسها مختلفة عن باقي بنات مدرستها، وهي تكابد مرارة العيش الأليم بسبب الفقر. وببراءة الأطفال تقول “فدوى”: ” الحيوانات تعيش حياة أفضل منا”، “نحن مجرد أصوات يسألون عنا مع اقتراب موعد الانتخابات والآن ونحن في أشد المحن لا أحد يسأل عنا رغم توسلاتنا”. بلكنة عصبية ثائرة وغصة في النفس تتساءل الطفلة الصغيرة عن معنى “المواطنة” وعن جدوى “حقوق الإنسان” ما دام آدميون من طينتهم يصطفون ك”قطع من السردين داخل حفر ضيقة وسط أجواء مرعبة”.
ويبقى الحال كما هو عليه، أمام تأخر الحلول الناجعة لبناء سكن اجتماعي يليق بالمواطنين المغاربة الذين يئنون أغلبهم تحت وطأة السكن غير اللائق والآيل للسقوط خاصة في الأحياء الشعبية بمدينة الدار البيضاء. وضع جعلنا نضع أيدينا على قلوبنا مخافة تكرار الانهيارات التي ألفناها في السنوات الأخيرة والتي راح ضحيتها العشرات من الأسر تحت أنقاض البيوت.
جورنال أنفو – بشرى بلعابد